تُكْنان..حكاية لها ما بعدها

تقول الكاتبة الألمانية اريكا فيشر ليتشة فى كتابها “جماليات الأداء..نظرية فى علم العرض”:(رفع الطليعيون بداية القرن العشرين نداء التقريب بين الفن والحياة،ليُعلَن عن ظهور شكل جديد لجماليات الأثر  وتتم إعادة سحر العالم من خلال الربط بين الفن والحياة).

*مدخل*:

إن الفيلم التسجيلى كنوع من انواع الفنون يتوفر على تاريخ طويل،فقد كانت بداياته الجنينية فى القرن التاسع عشر،ثم تبلور نضجه فى سياق الحرب العالمية الثانية،وقد كانت ادواره اضافة الى التوثيق،انتاج الصور عن الاخر،التى تعبر بالضرورة عن رؤية ذات طابع سياسي.

فى السودان يمكن القول ان الفيلم التسجيلى قد بدأ مع الاحتلال البريطانى للسودان فى العام 1898،ثم واصل مسيرته بعد الاستقلال والى الان مدّا وجزرا،وانقطاعا وتواصلا،مغطيا حقولا مختلفة فى السياسة والانثربولوجيا والسير الشخصية،والمعالم

والسياحة،والدعاية.

مع التحولات الكبيرة التى يشهدها عالم اليوم والتى تتمثل مجازاتها فى عولمة الاستغلال والقهر وبالمقابل عولمة المقاومة،متزامنة هذه المجازات مع ثورة الاتصالات التى لم يشهد التاريخ الانسانى مثيلا لها،والتى لم يتوقف دورها فى تقريب المسافات وإنما فى كسرها لاحتكار التعبير اذ صار بمقدور البشر..كل البشر خاصة المستضعفين منهم من النساء والرجال والولدان ان يجهروا بأصواتهم،وقد كان من ضمن وسائل هذا الجهر الفيلم التسجيلى.

*عن الفيلم*:

أتيح لى وفى أمسية بهيجة من أمسيات العاصمة اليوغندية كمبالا وفى مقر مركز سلاميديا أن اشاهد الفيلم التسجيلى السودانى (تُكْنان)،وأشارك فى الحوار الذى دار حوله بحضور مخرجة الفيلم  أريج حسين..يقع الفيلم ضمن مشروع (سينما بنات بالهواتف المحمولة)،وهو الفيلم الاول فى هذا المشروع…الفيلم من تصوير تسابيح حسين،وادارة انتاج وصوت فاطمة احمد وقد تمت صناعته برعاية وإشراف ودعم المخرج السودانى المعروف محمد فاوى.

يحاول الفيلم ان يجسّد حكاية امرأة من مجموعة البجة ومقيمة فى مدينة بورتسودان..المكان الذى تدور فيه الحكاية.حكاية نفيسة أحمد ابراهيم مع الحياة والنساء والرجال والاطفال والمجال العام.

*فى بناء الفيلم*:

نقصد ببناء الفيلم مجمل العناصر التى تنهض عليها علاقاته على المستويين،المرئي والمسموع،وتشمل عناصر المستوي المرئي التعبيرات ذات البعد الهوياتى للشخصيات الموجودة فى الفيلم،كالعمر والنوع واللون والازياء،وتشمل كذلك المكان والاكسسوارات والضوء والظلام،وتشمل عناصر المستوى المسموع،الكلام بتنوع لغاته وهى فى الفيلم العامية العربية السودانية المدينية وفى مواضع معينة البداويت،والموسيقى والمؤثرات الصوتية..أشير هنا الى ان هذه العلاقات محكومة بما يعرف بلغة الكاميرا والتى تقوم بالاساس على نوع اللقطات وزوايا التصوير والتى بالضرورة لا تأتى اعتباطا ولا تنتظم الا عبر عملية المونتاج اذ به تتأسس (عملية السرد)،المحكومة  بمنطف الفيلم التسجيلى كنوع ابداعى له منطقه الخاص.

يقوم الفيلم على مستوى الكلام على الافادات التى تدلى بها صاحبة الحكاية نفيسة احمد ابراهيم “البطلة”/ومدربة الصناعات الابداعية الشعبية “التطريز وصناعة العطور المحلية”/ومدربة كيفية استخدام وسائط التواصل الاجتماعى/والحوار الذى تتبادله الشخصيات الموجودة فى الفيلم فى جلسة الجبنة/وفى الفصل بين الاطفال الدارسين والمعلمة/وفى اجتماع تأسيس الجمعية النسوية..ذلك الحوار الذى يأتى عفويا وديمقراطيا ومحملا  بالكثير من وجهات النظر.

يبدأ الكلام التأسيسي فى الفيلم بالتعريف بالشخصية الاساس فى الفيلم،وهنا نلاحظ ان الفيلم لا يستخدم تقنية (التعليق) كتقنية متعارف عليها ومعمول بها فى الافلام التسجيلية “الراوي”،وانما يسند مهمة التعريف للشخصية نفسها وفى هذا دلالة تصب فى القول الاخير للفيلم والذى هو كما أري ضرورة ووجوب ان يعبر أصحاب (المصلحة) بأنفسهم عما يريدون لا ان يتم التعبير عن مصالحهم نيابة عنهم كما يحدث فى الغالب.

تعرّف صاحبة الحكاية نفسها كما جاء فى الفيلم:((أنا نفيسة احمد ابراهيم احمد.ملقبة بريرا والتى تعنى المحبوبة فى لغة البداويت.أعمل استاذة بتاعة عربى وتاريخ.عضوة فى لجنة المعلمين فى بورتسودان.عضوة سابقة فى لجنة الخدمات والتغيير فى الحي.مؤسسة جمعية تُكْنان وتُكْنان تعنى فى لغة البداويت “المعرفة”.أهتم بالتعليم فى المساحات بتاعة الجمعية.كنت ممكن انقطع عن التعليم بسبب الزواج،ولكن عشان الوعى اللقيتو فى التعليم فى المراحل الاولى خلانى أرفض الزواج قبل ما أتم التعليم وكان دا شرط وفعلا خلونى أكمل التعليم))…نلاحظ هنا وفى المستوي المرئي أن الافادة تتم بينما البطلة تقوم بعمل منزلى فهى تشعل نارا فى كانون..هنا لا يمكن النظر الى العمل المنزلى ومعه الحمل اى الانجاب “الأمومة” الذى ذكرته فى موضع آخر من افادتها بمعزل عن الإفادة وإحالاتها،فالإفادة تكشف ان التى تمارس العمل المنزلى وتنجب الاطفال هى نفسها فاعلة فى المجال العام فهى مؤسِسة جمعية تكنان لتنمية المرأة وعضوة فى لجنة المعلمين وعضوة سابقة فى لجنة الخدمات والتغيير فى الحى وهى التى استطاعت أن تقنع وعبر الحوار اسرتها ومن اراد الزواج منها بتأجيل الزواج حتى تكمل تعليمها،ليصبح فى الاخير ووفقا لسياق الفيلم ان العمل المنزلى والأمومة كبعض من هوية صاحبة الحكاية يأتيان متجاوزان لفكرة التنميط التى تكرس الى ان مهمة المرأة هى العمل المنزلى والانجاب ويصبحان موقفا ثوريا نسويا مغايرا يضحي  فيه العمل المنزلى قيمة مضافة يحوزها الشخص الذى يتقنه ويضحي الانجاب “الأمومة” فعلا نسويا ثوريا يمجّد الحياة ويهبها لآخرين،ولعل مما قد يؤكد هذا الزعم هو تلك المفردات الدالة التى استخدمتها فى افادتها  كمفردات (تعليم/معرفة/وعى/رفض/تعاون/سودانى/أمة/تراث).

*مالذى قاله الفيلم*:

استنادا على ما سبق يمكننى القول:إن فيلم تكنان والذى تم تصويره بجهاز الهاتف المحمول،قد استطاع أن يصل الى مقولته الكلية أو كاد والتى يمكننى تلخيصها فى جملة واحدة هى (الدفاع عن الحياة)،وقد توسل الفيلم فى محاولة الوصول اليها عبر انبنائه على تنوع فى اللقطات وفى الافادات وفى الامكنة “الشارع/الفصل الدراسى/غرفة الاجتماع”وفى الموسيقى التصويرية وفى ازياء المشاركات من التوب الى النقاب الى البنطال،صانعا من كل هذا التنوع سردا حميما يزاوج بين مجازات الفن ومجازات الحياة اليومية وحيث هنا يمكننى ان أعدّه اجتراحا مغايرا فى مشروع المقاومة وتحديدا المقاومة النسوية دونما ضجيح وتقعّر ولعل مما قد يعزز هذا الفرضية هو ان شخصيات الفيلم كلها من النساء والطفلات والاطفال والنساء هنا نساء يرغبن في تغيير انفسهن والشروط التى يعشن فيها،اضافة الى ثقافة التعاون التى ابرزها الفيلم والرهان على الاعتماد على الذات عبر تفعيل خبرات نسوية سودانية كالصندوق والاستثمار فيما يصنعنه بأيديهن من عطور ومشغولات يدوية.

هذا الكون النسوي البديع الذى اضاء حكاية نفيسة احمد واضاءة هى حكايته درسٌ فى المقاومة النسوية..دفاعا عن الحياة بالرهان على التعليم واعنى هنا التعليم التشاركى المشتبك باليومى وبما ينفع الناس.

وتبقى حكاية نفيسة احمد ابراهيم احمد ليست للنساء فقط وانما للرجال والاطفال الآن وللأجيال القادمة.

وإن كان من تحية فهى لمخرجة الفيلم ولفريق العمل وللمخرج السينمائي المثابر محمد فاوى الذى جعل هذا ممكنا،وبالطبع لأسرة مركز سلاميديا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى