ثورة 24 ومئوية السؤال الصعب: متى تُدفن القبلية في السودان؟
الخرطوم – خالد فتحي
عندما تصبح القبيلة سلاحًا، لا يبقى للوطن سوى أطلال من الخوف والانقسام. في السودان اليوم، لم تعد القبلية مجرد إرث اجتماعي، بل أداة صراع تُنذر بتمزيق البلاد، محوّلة الحلم بوطن موحد إلى كابوس من الولاءات الضيقة والصراعات الدامية. وبينما تنطفئ أحلام البسطاء في وطن جامع، تشتعل نيران العصبيات القبلية لتلتهم ما تبقى من أمل في استعادة السودان.
القبلية في قلب الأزمات
في خضم الأزمات المتلاحقة التي يعيشها السودان، خرجت القبلية من الظلال لتصبح عنصرًا رئيسيًا يُعقّد المشهد السياسي والعسكري. فمنذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، لم تعد التحالفات تُبنى فقط على المصالح السياسية والعسكرية، بل أضحت الولاءات القبلية وقودًا حيويًا يشعل الصراع، معيدةً الوطن إلى دائرة مغلقة من النزاعات والانقسامات.
هنا، تتصاعد الخلافات لتتجاوز الكلمات بين زعماء الميليشيات المسلحة، حيث جسّدت الحرب الكلامية الأخيرة بين مني أركو مناوي وشيبة ضرار نموذجًا صارخًا لهذا الانقسام. كانت هذه المواجهة أكثر من مجرد تبادل اتهامات؛ بل هي انعكاس لحالة وطن يعيش على شفا حفرة من التفكك.
لكن تلك الحادثة ليست منعزلة، فمنذ سقوط البشير في أبريل 2019، شهدت ولايات شرق السودان الثلاث: البحر الأحمر، كسلا، والقضارف، تصاعدًا لافتًا في الصراعات الإثنية بين البني عامر والنوبة من جهة، والهدندوة والبني عامر من جهة أخرى، وهو ما يعكس ذاكرة العنف المستمرة في تلك المنطقة بعد سقوط نظام البشير. وقد ساعدت حالة التراخي الأمني التي أعقبت الثورة في تفاقم الوضع، إذ ترتب عن ذلك تصاعد التوترات بفعل تدبير إدارة أمن القبائل بجهاز الأمن والمخابرات. هذه الإدارة، التي ظلت على ولائها القديم لنظام البشير، كانت وراء تأجيج الصراعات القبلية بما يخدم مصالح الثورة المضادة.
وهكذا أصبح الوطن رهينة لتوازنات قبلية هشة، بينما تُسحق أحلام التغيير تحت وطأة المصالح الضيقة والخطابات التحريضية.
هل يعيد التاريخ نفسه؟
رغم مرور قرن على ثورة 1924 التي رفعت شعار الوحدة الوطنية، إلا أن القبلية لا تزال عقبة في وجه بناء الدولة الحديثة. تلك الثورة التي قادها علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ شكّلت لحظة فارقة في تاريخ السودان، لكنها اصطدمت بجدار الولاءات القبلية التي أعاقت تحقيق حلم المواطنة المتساوية.
حينها بلغ حنق النخبة المتنفذة من عبد اللطيف وصحبه مبلغًا عظيمًا لدرجة إصدار بيان شهير باسم “كرام المواطنين” نعى الثورة السودانية وأنها أضحت شأناً تافهًا بالدرجة التي جعلت أشخاصًا أمثال علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ يتولون أمر قيادتها. كما كالت جريدة “حضارة السودان” السباب لعلي عبد اللطيف في مقال نشر بالجريدة بالقول: “البلاد أهينت لما تظاهر أصغر وأوضع رجالها دون أن يكون لهم مركز في المجتمع، وأن الزوبعة التي أثارها الدهماء قد أزعجت طبقة التجار ورجال المال، وأنها لأمة وضيعة تلك التي يقودها أمثال علي عبد اللطيف، وذلك أن الشعب ينقسم إلى قبائل وبطون وعشائر ولكل منها رئيس أو زعيم أو شيخ، وهؤلاء هم أصحاب الحق في الحديث عن البلاد، فمن هو علي عبد اللطيف الذي أصبح مشهورًا حديثًا وإلى أي قبيلة ينتسب؟”.
ويبدو أن التاريخ في السودان لا يتوقف عن التكرار، إذ تعود القبلية كحاجز أمام أي مشروع وطني كبير، تمامًا كما كانت قبل مئة عام.
من ثورة 1924 إلى نظام الإنقاذ
على مدار مئة عام، تغيّرت الأنظمة، لكن القبلية بقيت. ففي ظل نظام الإنقاذ، أصبحت القبلية أداة لإدارة السلطة عبر المحاصصات، مما عمّق الانقسامات وأشعل الصراعات. واستغل البشير خطابًا سياسيًا قائمًا على استنهاض العصبيات القبلية لإضعاف المعارضة السياسية وصرح علنًا بتفضيله بعض القبائل على أخرى، مما خلق حالة من الغضب والاستقطاب العميق. ففي أكتوبر 2008، اندلعت مصادمات قوية بين الشرطة ومتظاهرين من قبيلة الهوسا، احتجاجًا على تصريح منسوب للرئيس البشير اعتبر فيه قبيلة “الهوسا” وافدة إلى السودان. وأسفرت الاشتباكات بين الشرطة والمحتجين عن مقتل وإصابة مئات الأشخاص، واضطر البشير لنفي التصريح، بينما اتهم بعض المسؤولين زعيم المؤتمر الشعبي، حسن الترابي، بالوقوف وراء تحريك الاحتجاجات في ذلك الوقت.
كذلك كان خطاب البشير التحريضي واستراتيجية “فرّق تسد” أدوات لتثبيت الاستبداد، حيث استُخدمت القبائل لتعزيز الولاءات وزُرع التمييز في قلب مؤسسات الدولة، على النحو الذي وثقه “الكتاب الأسود” الذي فضح التمييز الجهوي والقبلي في توزيع السلطة والثروة. ودلق حبر كثير عن كاتبه فقيل إنه عراب النظام حينها حسن الترابي، كما نُسب لمؤسس حركة العدل والمساواة الدكتور خليل إبراهيم. إلا أن البشير كشف في اجتماع مع القوى السياسية في بيت الضيافة بالخرطوم، في 14 يوليو 2008م أن “الكتاب الأسود” في الأصل دراسة أعدتها رئاسة الجمهورية للاطلاع على خارطة المشاركة السياسية في السلطة على مستوى المركز والولايات.
ولم يكتفِ نظام البشير بسياسة “فرّق تسد” فقط، بل سلّح بعض القبائل عبر ميليشيات مثل “الجنجويد” في مناطق النزاع، ليتحول الصراع القبلي في بضع سنين، إلى وحش دموي يلتهم البلاد حاليًا. ومن العجب أن الجنرالين المتحاربين اليوم كانا حليفين أساسيين في تغذية ذلك الوحش.
وهكذا، تحولت القبيلة إلى سلاح مزدوج: تضرب الداخل السوداني وتبني أسوارًا من الشك والكراهية بين أبناء الوطن الواحد.
ما بعد ثورة ديسمبر
مع اندلاع ثورة ديسمبر، أُضيء بصيص أمل نحو تجاوز العصبيات القبلية. تلك اللحظة التي توحدت فيها الآمال خلف حلم التغيير كشفت إمكانية السودان للخروج من عنق الزجاجة. لكن سرعان ما عادت الظلال عندما أعاد العسكر بشقيهما البرهان وحميدتي، استخدام القبيلة كأداة لاستقطاب الدعم السياسي وإشعال النيران ضد حكومة الدكتور عبدالله حمدوك. ووصلت حدة اللعب بورقة القبلية لدى الجنرالين إلى إغلاق ميناء بورتسودان بدعم من ناظر الهدندوة محمد الأمين ترك، كما توسعوا في إغواء العطايا على زعماء القبائل ورجال الإدارات الأهلية بطريقة تجاوزت كل حد لدرجة إننا سمعنا للمرة الأولى برئيس الإدارة الأهلية لقبائل الخرطوم. وهذا الرجل بالذات استخدمه حميدتي لدعم اعتصام القصر قبيل انقلاب 25 أكتوبر 2021.
وهكذا عاد الخطاب القبلي والعشائري ليحتل المشهد برمته في السودان ، حتى تفجرت الحرب بين حلفاء الأمس وأعداء اليوم، وكأن السودان محكومٌ بدوامة أبدية من الصراع على الهوية والولاء.
ومنذ اندلاع النزاع المسلح في أبريل 2023، تحوّلت القبلية إلى أداة محورية لتشكيل التحالفات بصورة غير مسبوقة. فالقوى المتصارعة لم تعد تعتمد فقط على القوة العسكرية، بل تسعى لاستقطاب القبائل لضمان النفوذ. بهذا، أصبح الصراع السوداني أكثر تعقيدًا، محمّلًا بأبعاد قبلية وإثنية قد تُضعف أي أفق لحلول دائمة وحتى مؤقتة.
هل يمكن تجاوز القبيلة؟
رغم قتامة المشهد، فقد تبرز أجيال جديدة وحركات التغيير كنافذة أمل لبناء هوية وطنية على أسس جديدة. ومع تصاعد الدعوات للمواطنة والعدالة، يمكن أن يتحقق الحلم الذي رفعته ثورة 1924، ليصبح السودان وطنًا تتجاوز فيه القبيلة حدود الانتماء، ويُدفن فيه هذا الإرث الذي طالما أعاق التقدم.
دفن القبلية ليس مجرد قرار سياسي، بل هو معركة وجودية تستحق أن تُخاض بصدق وشجاعة. والسؤال الذي يظل عالقًا: هل تمتلك الأجيال القادمة الإرادة والوعي لكتابة فصل جديد في تاريخ السودان؟