ذاكرة على ورق (3)

ثروت همت

(لمتين يلازمك في هواك مُرَّ الشجن)

اليوم، جلست على حواف الماضي، غريبة كالعادة عن كلِّ ما يحيط بي، أستنطق الجرح السائل علَّه يلعقُ ندفات ثلوج ألمٍ توهط طريقي… بودلير، يا سيدي المُرهِق…

أناجيك بعد أن استنفذ العمر مخزونه الأسوي ورصيده المعد سلفاً للمعاناة، أسكب أحرفك الشبقة بآلامك لأفض عذرية البياض الموحش، أقدم قرابين الإنتماء لوطن العبارة لديك. بعد أن أقحمتُ نفسي بنفسي في شِباك منفى اللغة وفقدان هويتها. ما أقسى أن تفطمك اللغة على صغر، فتتغذى على حليب أُعتصر من أثداء متعطِّشة، بأيد كانت المتعة صبوتها، بشفاه كانت الشهوة غايتها، بدلاً عن فم رضيع كان الجوع دافعه، إن لغتي لمنفايّ، ووجودي غربتي، ونفسي ضريحُ وُضِعتُ فيه.

ما أقسى كل هذا…

“إن نفسي قبر أطوّف فيه وأقيم منذ الأزل بثياب راهب ضال- بودلير”.

هي غربتي الذاتية إذاً، هي غربة الإنسان الوجودية التي تهبط معه من الرحم، لتمتد على شساع عمر الفرد، أذكر جيداً حديثنا الأول والذي كان حول الغربة الوجودية والعزلة الاختيارية. أذكر يومها أنني كنت أتحدث عن الغربة الوجودية بإفراط مُنهِك… وأذكر أيضاً كيفية اندهاشك لسؤالي المفاجئ في بداية حديثنا… إذا ما كنت أنت تعاني من غربة وجودية؟؟ سؤال طرحته يومها في محاولة مني لتعرية تجاعيد حزن سوداء ممتدة على إتساع عينيك، إيجاد تفسير للأسى المضمخ في كلِّ ما له علاقة بك، حركاتك، سكناتك، صمتك، حتى رائحة عطرك لم تسلم من الحزن والأسى والغموض، كلُّ شيء فيك يلهث حزناً… وكعادتي لم أنتظر ردك، لأجيب على سؤالي بنفسي:- نعم، أنت تعاني من غربة وجودية… فما كان لإندهاشك حينها إلا وأن تحوّل لابتسامة صامتة، دافئة… نقلت لي عدوى الدهشة بسحرها… حينها اتفقوا جميعاً!! حاستي السادسة… بصيرتي الثانية ورؤيتي السابقة… على أن هذا الجالس أمامي… سيتوج بأمر الحب… ملكاً على الروح.

سألتني من بعد عن كيفية إدراكي إذا ما كنت أنت تعاني من غربة وجودية أم لا. أخبرتك أنه إحساس بالتواصل بين رفقاء الغربة الوجودية، طلاسم تمكن الفرد الذي يعاني منها بإلتقاط مؤشراتها من الآخر، سألتني أن أحدثك أكثر عن تلك الغربة… غربة الفرد عن النفس… عن الوجود ذاتياً.

فابتسمت أنا بذات الصمت… وما كانت إبتسامتي إلا ثغرة من الزمن لألملم أطراف روحي المسلوبة بحضورك… قلت لك:- هي حالة متفشية بين البشرية، لكنها متفاوتة… سببها رفض الذات للمثول للسنن التي فُرضت عليها. رغبة الذات في أن تكون أناها من تجاربها المتمخضة عن إحتكاك مالكها بذاته الفطرية وإيجاد إجابة لكل سؤال داخلي يلح على ميلاد معرفة حقيقية بلا رقيب أو حسيب، ومن ثم إحتكاكه بالعالم الخارجي لإيجاد ذاته الفردية، نفسه الذاتية، ليست تلك التي فُرضت عليه من المحيط الحولي وتم إلباسه لها بعهد مضمخ بالحيرة من الميلاد وحتى الممات… ليكون إمتداداً للسابقين، ومن هنا تتولّدُ المعاناة ومن هنا تتولّدُ الغربة الوجودية والتي تفضي إلى طريقين؛ أما الأول فهو طرق أبواب البؤس الدامي… حمل الحيرة والمعاناة الشاقة على ظهور إحدوَّدبت من ثقل حملها، فما عادت تقوى على السند، التنقل بين محطات الحياة بالإغترابٍ عنها والهروب إلى عالم من الأحلام تسجن فيه الذات نفسها، وتبقى مجرد أمل وهميٍّ لا تمتد إليه جهود إرادية.

أما الثاني فهو السير في طريق التوافق مع الأنا الداخلية بوضوح لا يشوبه شائبة الأنا الجمعية، وضع الذات وجهاً لوجه أمام نفسها… بكشف معدنها غير المصقول لرياء المجتمع والتصرف بحرية كاملة دون خداع… تعرية أيديولجيتها المُملاة عليها من شفاه الموروثات وموميات الأفكار المحنطة والمعتقدات والأيديولوجية التقليدية على مرِّ العصور… فتح خزانة قديمة للتخلُّص من محتويات خاصة جداً… لكنَّها لم تعد تلزم لا لعلة فيها، بل لأنها لا تشفع للفرد داخل ذاته… لتحل محلها معتقدات جديدة تولَّدت عن إحتكاك الأنا المباشر بالعالم… بالطبيعة. بالصواب… وحتى بالخطأ، فما الخطأ في قواميس الحقيقة إلا باب يفضي إلى الصواب… حديثي لا يتضمَّر أن على الفرد التخلي عن كلِّ ما شبَّ عليه وشابوا عليه من قبله ورفضه، لا… أنا أتحدث عن الموروثات والمعتقدات الخاطئة ومع علمنا أنها خاطئة إلا أن عبودية الفكر ورفض تقبل كل ما لم يكن قديماً يقبع مقرفصاً على التحرر.

إذا نظرنا للغالبية -إن لم يكن الأعظمية من المبدعين في التاريخ الكوني- لوجدناهم عصارة لتجربة الغربة الوجودية الذاتية، غربة الفرد عن الجمع، ولوجدنا إبداعهم خلاصة لتلك التجارب، عاشوا أناهم الخاصة بعيداً عن سنن المجتمع، بحثوا عن الحقائق لكل معطى يتلبسه الشك… في عالم بات يتعذر على الفرد فيه أن يميز بين محتواه الداخلي ومحتوى الآخر والذي لا يمت له بصلة سوى مشاركته له ذات البيئة أو المجتمع.

قاطعتني مستشهداً بنيتشة:- “أتطلّع إلى كل ممنوع، تحت هذه العلامة سيكتبُ النصرُ لفلسفتي ذات يوم. ذلك أن الحقيقة وحدها هي التي ظلت إلى حدِّ اليوم خاضعةً جوهرياً للحظر”.

قلت لك مواصلة:- نعم، نيتشة محطِّم الأصنام كما كان يقول عن نفسه، ذلك المضحي الذي عانى كثيراً داخل غربته النفسية وعندما حاول الإفلات منها نجح وأبدع، لكن رفض الجمع ونبذه كان له بالمرصاد… كان المقابل الذي حصده، هو لم يلق بالاً لكل ذلك وضحى من أجل إبداعه، وجاء زرادشت، وقال من خلاله كل ما كان يلهج به فكره، فقابلوه برفض أشدّ قسوة من الأول.

صمتُ قليلاً ثم قلت: التضحية هي ضريبة الخروج إلى الإبداع. أن تكون مبدعاً ذلك يعني أن تكون مضحياً… أن تقدم نفسك كبش فداء لنبذ المجتمع، أن تعرِّضها للنفي والرفض بل أحياناً القتل والصلب… لا لعلة أو خطأ ارتكبته بل لرفضك دائرة التناسخ الفكري والتقليدي المتَّبع.

قلت تأكيداً لك: صحيح، وهم ضحايا البشرية وغصة في حلقها… إبتداءً بالرسل الكرام وانتهاءً بالمفكرين والفلاسفة، الأدباء والشعراء، منهم من لم يعاني من غربة النفس والذات، لكنه عانى من رفض الجمع له ونبذه لآرائه والتي هي مراحل متقدمة من سلسلة الشكِّ والحيرة والقلق الدائم، كم من مبدع مضغته الحياة بأسنان لا ترحم ولفظه المجتمع من بين أفواه لا تنطق إلا الضباب والرياء؟

نيتشة، برتراند رسل، كافارني، غوتة، لوركا، رامبو، الحلاج، بودلير، البير كامو، سقراط، فيرنادسكي، محمود محمد طه، بن عربي، سبينوزا، التجاني يوسف بشير، بيارلرو، كونفوشيوس، المتنبي، برنارد شو، ديكارت، كوبر يفيتش، شوبنهور، جوتيه، خورخي جيين.. وآخرون كُثر مهما اختلفت الآراء عبر ثُلاثِيات الزمن على ما نضح به إبداعهم وصداه داخل نفس كلِّ منا ذلك لا ينفي مدى معاناتهم وحالة الترحال الدائم داخلياً، حتى بوذا والذي لم يقدِّم للبشرية سوى الحب والرحمة والحكمة… مهلاً، لماذا الذهاب بعيداً، حتى أنت لم تسلم من رفض المجتمع ومحاولاته المستميتة لإغتيال أفكارك ووأد بناتها.

إنتشلتني من حالة البؤس التي محورتني بنظرة لعثمت حزني وجرّدت ألمي… سألتك لماذا صمتك؟ أجبتني:- بوذا… تلك الروح الشفيفة… أوتعلمين أن مغزى الحياة وفقاً لتصورات بوذا يكمن في الارتقاء والكمال الذاتي، الأخلاقي، النفسي والروحي… والهدف الأساسي للارتقاء الروحي الذاتي هو الوصول لوضعية يتقبّل من خلالها الإنسان الآخرين بل كل ما هو حي في العالم كما يتقبل ذاته نفسها… أين نحن من كلِّ ذلك؟

أجبتك بأسىً وبإبتسامةٍ شاحبةٍ:- الإسلام، المسيحية واليهودية بل حتى الديانات غير السماوية كالهندوسية والكونفوشيوسة وجميع العقائد سواءً كانت تجسيدية أم ثالوثية تلهج بذات النهج، الإنسان هو من ضلَّ عن كل ذلك متدحرجاً داخل حبه لأناه الخاصة، قاصياً كل من له حقُّ الحياة من تفكيره، حقاً وكما قال أيفانوف “إن الإنسان كائن في حالة تأزمية”.

ثم استطردت قائلة:- أَوتعلم أن الإطلاع وتملك المعرفة أيضاً تضحية كبيرة، مصنع آخر لإنتاج غربتنا الوجودية، صراع آخر بين الشك والتشكك أو حتى الجنون في أحيان كثيرة.

كم من مطّلع مدرك حمله إطلاعه على بساط الشك والتشكك إلى مقرِّ الجنون، حالات كثيرة موجودة في العالم بل حتى في نطاقنا المحدد بجغرافية الوطن، أذكر آية في سِفرِ التبشير حملت نفس المعنى تقول:

“The more you know, the more it hurts;

The more you understand, the more you suffer”.

{Ecclesiastes 1 V 18}

قلت لي مستشهداً بنيتشة مرة أخرى “أيُّ قدر من الحقيقة يستطيع عقل أن يتحمل؟؟ وإلى أي حدٍّ من الحقيقة يجرؤ عقل على المضي”.

أجبتك مبتسمة، وقال أيضاً “حتى أشجعنا نادراً ما يملك شجاعة تحمل كل ما يعلم”.

صمتَ قليلاً وواصلت قائلاً:- ولكن أليس الجنون يعني الإفلات من طوق الرهبة والحرج… النطق بكامل المصداقية بما يجوب في الدواخل ويعتليها!؟

قلت لك مداعبة:- مرحى ثم مرحى بالجنون إذاً.

إتسعت قلوبنا بابتسامة ركضت بنا إلى حميمية الصمت… أُعتقلت الكلمات بيننا، تلاقت أعيننا لتلثم أرواحنا بقبلات اشتهتها شفاهنا وتشعل حواسنا بجنون استنكره العقل قبل المجتمع، تدحرج الحب مداعباً لقلوب جفت من الظمأ الوحدة، وروح رهقت الشقاء… حديث أخفاه اللسان… ولهج به الإحساس.. نفوس تشابهت في محتواها وقلوب تآلفت على وعد من الحب.

سألتك بنية التحرر من عبودية الحواس والتخلص من وطأته:- حدثني عنك.

قلت ملتقطاً بصرك من على وجهي:- ماذا أقول… فأنتِ تعلمين حتى ما أجهله أنا عن نفسي.

نظرت إليَّ مطولاً وتابعت:- كيف تملكين كل هذا؟ بل كيف تتحملين مسؤولية تملك كل هذا؟

أجبتك باستفهام آخر:- ماذا تقصد؟

قلت لي من بعد صمت:- أعترف أنني أحاذر أن أُبدي إعجابي بالبحر في عينيك وكم النوارس التي تحط على شاطئه لحظة مغامرة فاتنة، الحزن المتمدد في عينيك يخيفني أخاف جداً أن أسبح فيه، أن أمسه وتتشرَّبه مسامي، أنتِ موغلة في الدهشة، جميلة وعميقة جداً، لك من الحضور سحره الطاغي. تتحدثين عني كما لو أن العمر أوجدنا معاً منذ بداياته، مع أن معرفتنا لم يمضي عليها من الأيام سبعة، تتحدثين بخلفية من يمتلك خبرة مدادها العمر، مع أن العمر لم يمكث سوى عقدين من الزمان ونصفه بجوارك… كيف تتحملين تملك كل هذا؟

اعترتني موجة من مشاعر لم أجد لها اسماً في حواري الداخلي، فقدت من تأثيرها دفة توازني مع المحيط الحولي وجدت صوتي يخرج واهناً، متشرنقاً بحبال مشاعري المضطربة قلت لك: بالتجاهل! أتحمله بتجاهله، نشأت في عائلة ملكتني المفاهيم بشفافية الحقيقة وليس الخوف منها نشأت بمفهوم بودليري مفاده “ما يهم ما تستطيع أن تكون الحقيقة الموضوعة خارج نفسي إذا هي ساعدتني على أن أعيش وأن أشعر إنني موجود ومن أنا”، نشأت في عائلة نعمت أظافري على ترتيب صحيح للجانب الجندري في أجندتي الداخلية، نشأت بمفهوم أن الرجل والمرأة فرَّق الخالق بينهما في تفاصيل الجسد ووظائفه، ولكن لم يفرِّق بينهما في قدرات الخير والعاطفة والإنسانية، فرَّق الله بينهما في مقدرة العطاء والأخذ والتحمل، ولكنه لن يفرِّق بينهما في الجزاء الأخير والذي يثاب المخلوق بموجبه عن حسناته ويحاسب على سيئاته يوم الحساب الأعظم، للأسف، كلُّ شيءٍ في مجتمعاتنا رهين للعادات والتقاليد، حتى الدين مُحوَّر ليخدم المعتقدات والموروثات.

برهةُ صمتٍ عبرت بيننا، هل كنت تدرك مسبقاً أن الصمت يشعلني، والغموض يوقظ حواسي، والألم يستجدي روحي وأنني ضعيفة جداً في مواجهة النقاء، يا إلهي. يرهقونني أنقياء الروح، يشعلون حواسي قناديل في عوالمهم الخالدة… ينفطر قلبي عند عبورهم الصامت للحياة، كنت أخشى عليك العبور الصامت، محملاً بهزائم الأرض، وآلام البشرية، لم أكن أدرك حينها أن جرح الأنقياء دامٍ، موغل في الروح، لا يمكننا تجاوزه بإسدال الستار على الماضي، لم أكن أُدرك أن النقاء مثله مثل الحياة والموت والحب يحمل أكثر من قناع وأكثر من معنى، لم أكن أُدرك أن عمق الأنقياء وحلٌ من التناقضات، لم أكن أدرك أن قلبك كان يتربّص بالنسيان قبل الحب، اليوم يمكنني اختصار قصتنا بعبارة للويس ثرنودا كإرضاء أخير لذكراك، أنا التي لم يعتريني قلق تجاه إعجابك بكلِّ ما لهج به نهج ثرنودا، قد كنا يوماً الغضب الذي يشيع فيه لون الحب. الحب الذي يشيع فيه لون النسيان.

سألتك مرة أخرى: حدثني عنك؟

أجبتني مستجيباً بتنهيدة متقطعة بأمر شهوة لم تغادر إلى حيث:-

أنا رجل يعيش على حواف الماء الزلقة ولا يرتوي، يغتسل تحت المطر الاستوائي ولا يحاذر الصواعق، يعبُ من رحيق الحياة حتى ثمالة الوجع… الحياة تسير أمامي بصمت مستفز وخطوات قصيرة مقتضبة. غربتي النفسية صليب سمرت عليه وإطلاعي ومحاولاتي لتملك الحقيقة لم يرفعاني من على هذا الصليب بل على العكس… ما زلت أبحث عن حريتي الكاملة بعيداً عن الاستلاب الفكري الحولي.

قلت لك بسزاجة متعاطفة:- هل الحرية تتجزأ عندك؟

أجبتني بابتسامة متزنة… الحرية لا تتجزأ ولكنَّها تحكم بقوانين داخلية قوانين تكونت من قناعاتي الخاصة… ومدى استيعابي لمفاهيم الخطأ والصواب… بعيداً عن مفاهيم غيابية و(تابوهات) يعد النظر إليها محرماً ناهيكِ عن الحديث والخوض فيها.

قلت لك بإصرار:- أنت لم تصمت وقفت صامداً ضدَّ شلل الإرادة المهيمن والخطوط العرجاء، في وقت كان فيه الجميع يلتهم الحياة بشراهة من ينتقم مِن العدم، وينخب كأسها في مدائن الأسف.

رددت بصوت غائب عبارة لوتريامون الشهيرة “مقدسة هي القوة… لزام على الإنسان أن ينقش آثره بعنف على تصاميمه الجريئة، فالقوة هي التي تمسك بمفاتيح الفراديس وتدير أبوابها بقبضتها الفيحاء”.

ثم واصلت فارداً ذراعيك على طول الأمل: كي تظل حراً لا بد من اغتيال القيود، الحرية تنضج وتتكاثر تحت عبء الظلم وركام الإضطِهاد والذل وتَقَيُؤ الجوع والحرمان… التفاؤل اللفظي مهما ارتفع جناحه لا يحلق بنا. وأنا أريد التحليق عالياً!

***

إفترقنا يومها بعد أن رفعنا الأرض بالشفقة، وملأنا جوفيّنا بالصبر والسلوان وحسن العزاء، ونخبنا الحياة في كأس الرثاء والحداد… إفترقنا على وعد اللقاء في اليوم التالي. وتوالت اللقاءات، كانت المدينة تحتفي بنا على طريقتها المجنونة… ونهر التيمز يستضيفنا على مقاهي شاطئه الجنوبي، التقينا العم بيسا فيرس… عازف الجيتار الأفريقي العجوز… ونهلنا من عزفه… ومن حنانه الأفريقي وتعطشه لأبوة حال مفهوم حرية الفرد الخاطئ في المجتمعات الغربية بينه وبين ممارستها، كان يستقبل خطوات المارة بأغنيات تخرج من بين شفتيه بمتعة من يقبِّل أنثى… حبيبة… مقابل حفنة من العملات المعدنية يلقونها بجواره، وكان يستقبل خطواتنا المتلهفة بابتسامة وأغنية.

(One love)

لمارلي بعد أن أدرك أنها المفضلة لديَّ، لتبدأ خطواتك بالرقص على إيقاعي الداخلي. كنت تعشق الرقص، كان يحمل لك أكثر من معنى وأكثر من تعبير عن حالة، كنت عاشقاً للشعوب التي تمتهن الرقص كطريقة مبتهجة للتعبير عن أحزانها وأحلامها التي صابها الخمول فما استطاعت له تحقيقاً.

واستمرت اللقاءات، عبرنا الجسور المعلقة على النهر، حفاة إلا من الجنون وحنين كان قد سبق وخبأته منا السنين. نقلت لك عدوى بريفير، لفرلين، لأوديبرتي، بن جلون، الفارابي، وليم موير، بالمر، أنسي الحاج، كافارني سيد المأساة وأبيها الشرعي، لامارك وداروين، عروة بن الورد، قورمول يوني بينقو وموسيقى الفلامينكوا انابيل سنتياغو وإستريلا مورينتيه وبوكا، نقلت لك عدوى شعراء الفرنكوفونية من خوري غاتا حتى ستيتيه مروراً بسيزير وفرهارين، ونقلت لي عدوى شلير ماخر، ميلان كونديرا، لاروشفوكو، روسلو، كلانسييه، غليسان، ميشيل فوكو، نيكلسون، نيكوس، أغناطيوس وسان ميلا، لرونسار، هيغل، الفيتوري، بن حزم الأندلسي والنفري، واتفقنا في حب بوذا، مانديلا، غاندي، لوركا، نيرودا، صلاح أحمد إبراهيم، ماك تاجارت، برشت، كروبوتكين، ستروس، زوربا، الفريد دي موسيه ورحلات جالليفر، غوتة وفاوست دراما الإنسان العقلي الذي يختنق داخل غرف الوعي الشخصي، ويتمان الذي بحث عن عزلته في نيويورك حتى ارتبط اسمها بموته، بن عربي، محمود درويش والجدارية رحلة الذهاب للموت والعودة للكتابة عنه، الحلاج ولوتريامون، اتفقنا في حب النور الجيلاني ومصطفى سيد أحمد، فيروز، مارلي وموسيقى الريقي، موزارت والأوبرا، اتفقنا في عشق أفريقيا وإثيوبيا، تيدي أفرو وتيزيتا وجاه يستاسريال، أستير أويك و(الدنيا ليل غربة ومطر) والجنون و… و… و(من ياتو قاسم مشترك).

لندن 23 أغسطس 2011

ثروت همت

كاتبة بريطانية من أصول سودانية، لها العديد من النصوص الأدبية والمقالات المحكمة المنشورة في دوريات عالمية وأقليمية عملت في صحيفة الخليج التي تصدر من إمارة الشارقة لفترة من الزمن قبل ان تتفرغ للعمل في وزارة الخارجية البريطانية.
زر الذهاب إلى الأعلى