السياسة تسطع في السودان وتطغى على أخبار المعارك

أفق جديد

خلال الأسبوع الماضي، شهد السودان تحولاً ملحوظاً في ديناميكيات الأخبار، حيث طغت التطورات السياسية على تقارير المعارك والاشتباكات الميدانية التي كانت تتصدر عناوين الأخبار لأشهر طويلة. بدأت هذه التحولات بخطاب مثير للجدل ألقاه رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، هاجم فيه الإسلاميين، قبل أن يتراجع عن موقفه لاحقاً في محاولة لتصحيح المسار. وتزامن ذلك مع انقسامات داخل جبهة “تقدم”، التحالف المدني البارز، وتصاعد التوترات مع كينيا على خلفية انشقاق مجموعة داعية لتشكيل حكومة موازية في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع. وفي ذات السياق، شهدت العاصمة الكينية نيروبي توقيع ميثاق سياسي جديد، أضاف طبقة أخرى من التعقيد للمشهد السياسي السوداني. وأخيراً، برز الحديث عن تعديلات دستورية محتملة تسعى لتعزيز سيطرة البرهان على السلطة. في هذا التقرير، نستعرض هذه الأحداث بالتفصيل، وكيف أعادت تشكيل الأولويات الإعلامية والسياسية في السودان خلال الأسبوع المنصرم.

خطاب البرهان: هجوم على الإسلاميين وتراجع لاحق

في مطلع الأسبوع الماضي، ألقى البرهان كلمة أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والشعبية على حد سواء. وجه فيها انتقادات لاذعة للإسلاميين، متهماً إياهم بمحاولة استغلال الجيش للعودة إلى السلطة، في إشارة واضحة إلى فلول النظام السابق بقيادة عمر البشير. هذا الهجوم لم يكن مفاجئاً بالكامل، إذ سبق أن أبدى البرهان في مناسبات سابقة تحفظاته على أي محاولات لاستعادة النفوذ من قبل الحركة الإسلامية. لكن لهجته الحادة هذه المرة أشعلت موجة من التكهنات حول نواياه السياسية.

الخطاب لم يمر دون ردود فعل. فقد اعتبره البعض محاولة من البرهان لاستمالة القوى المدنية التي تعارض عودة الإسلاميين، بينما رأى آخرون أنه تعبير عن صراع داخلي في المكون العسكري نفسه. لكن اللافت كان التراجع السريع الذي أعقب هذا الهجوم. فقد أصدر البرهان لاحقاً تصريحات تصحيحية، أكد فيها أن الجيش يقف على مسافة واحدة من جميع القوى السياسية، وأن هدفه هو حماية الفترة الانتقالية وليس الانحياز لأي طرف. هذا التراجع، بحسب المراقبين، جاء نتيجة ضغوط داخلية، إلى جانب رغبة في تهدئة التوترات التي أثارتها الكلمة.

انقسام جبهة “تقدم”: أزمة داخل التحالف المدني

في سياق متصل، شهدت جبهة “تقدم”، وهي التحالف المدني الذي يضم قوى الحرية والتغيير وأطرافاً أخرى، انقساماً حاداً خلال الأسبوع الماضي. هذا الانقسام لم يكن وليد اللحظة، بل نتاج تراكمات من الخلافات حول كيفية التعامل مع الأزمة السياسية والعسكرية في البلاد. تصاعدت الأزمة عندما أعلنت مجموعة منشقة عن الجبهة دعمها لتشكيل حكومة موازية في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع، وهي الخطوة التي رأت فيها القيادة الرسمية لـ”تقدم” تهديداً للوحدة الوطنية.

الانشقاق سبق مشاورات جرت في كينيا، حيث تسعى هذه المجموعة، بالتعاون مع قوات الدعم السريع وبعض الحركات المسلحة، لإقامة سلطة بديلة تعمل من مناطق سيطرة “الدعم السريع”، مثل دارفور وكردفان. هذه الخطوة أثارت مخاوف من تقسيم السودان فعلياً إلى كيانين متناحرين، خاصة مع استمرار الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ أبريل 2023. المجموعة المنشقة بررت موقفها بالقول إن الحكومة الحالية في بورتسودان، التي يقودها البرهان، فشلت في إدارة الأزمة وتحقيق السلام، مما يستدعي البحث عن بديل.

توترات كينيا والسودان: تداعيات المشاورات في نيروبي

تزامنت هذه التطورات مع تصاعد التوترات بين السودان وكينيا، على خلفية استضافة الأخيرة لمشاورات أفضت إلى توقيع ميثاق سياسي جديد يوم السبت الماضي في نيروبي. الميثاق، الذي وقّعته قوات الدعم السريع وحلفاؤها من الحركات المسلحة والقوى السياسية المنشقة، يهدف إلى تشكيل حكومة موازية في مناطق سيطرة “الدعم السريع”. هذا التطور أثار غضب الحكومة السودانية في بورتسودان، التي اعتبرت استضافة كينيا لهذا الحدث تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية للسودان.

في خطوة تعكس حدة التوتر، استدعت الحكومة السودانية سفيرها في نيروبي للتشاور، وأصدرت بياناً حاداً اتهمت فيه كينيا بدعم “مليشيا متمردة” تهدد وحدة السودان. من جانبها، دافعت كينيا عن موقفها، مؤكدة أنها تلعب دور الوسيط المحايد في إطار جهود الاتحاد الأفريقي لإنهاء الصراع في السودان. لكن هذه التبريرات لم تهدئ من روع السلطات في بورتسودان، التي رأت في الميثاق تهديداً مباشراً لشرعيتها.

توقيع الميثاق في نيروبي لم يكن مجرد حدث رمزي، بل خطوة عملية نحو ترسيخ سلطة موازية. تضمن الميثاق رؤية لإدارة الفترة الانتقالية تشمل إنشاء مؤسسات حكم محلية في مناطق “الدعم السريع”، مع خطط لتوسيع النفوذ السياسي لهذه السلطة. المراقبون يرون أن هذا التطور قد يعقد جهود التوصل إلى تسوية شاملة، خاصة مع رفض البرهان وجماعته الاعتراف بأي شرعية لهذه الحكومة الموازية.

تعديلات الوثيقة الدستورية: تعزيز سيطرة البرهان

في خضم هذه التطورات، برز الحديث عن تعديلات الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية في السودان. هذه التعديلات، التي يقودها البرهان وحلفاؤه، تهدف إلى تعزيز سيطرته على السلطة في مواجهة التحديات المتزايدة. من بين ما أسفرت عنه التعديلات تعيين رئيس وزراء مدني يعمل تحت إشراف البرهان، مع إعادة هيكلة مجلس السيادة لضمان بقاء الجيش في صدارة القرار السياسي.

الوثيقة الدستورية الحالية، التي أُقرت في أعقاب الإطاحة بالبشير عام 2019 وعدّلت لاحقاً لتشمل اتفاق جوبا للسلام، باتت موضع جدل متزايد. يرى حلفاء البرهان أنها لم تعد ملائمة للواقع الحالي، خاصة بعد خروج قوات الدعم السريع من المعادلة الحاكمة. في المقابل، تعارض القوى المدنية أي تعديلات من جانب واحد، وتطالب بعقد مؤتمر دستوري شامل يضم جميع الأطراف.

في الأسبوع الماضي، أعلن البرهان عزمه تشكيل حكومة انتقالية تكنوقراطية، في خطوة يراها البعض محاولة لاستباق أي تقدم للحكومة الموازية التي تُشكل في مناطق “الدعم السريع”. لكن هذه الخطوة أثارت تساؤلات حول مدى جدية البرهان في الالتزام بالحلول التوافقية، أم أنها مجرد تكتيك لكسب الوقت وتعزيز موقفه.

طغيان الأخبار السياسية على الميدان

ما يميز الأسبوع الماضي هو تراجع أخبار المعارك الميدانية نسبياً أمام هذه التطورات السياسية، قبل أن تتصاعد مجدداً اليومين الماضيين في جبهة الأبيض وشمال كردفان، ومناطق القطينة التي عزز فيها الجيش سيطرته الميدانية. 

وعلى كل، يبدو أن السودان يعيش مرحلة انتقالية معقدة، حيث تتشابك فيها الأبعاد السياسية والعسكرية والإقليمية، والتطورات تشير إلى أن الصراع في السودان قد دخل مرحلة جديدة، تتطلب حلاً سياسياً شاملاً يتجاوز الانقسامات الحالية، وإلا فإن البلاد تواجه مخاطر تقسيم قد يكون من الصعب التراجع عنه.

وبينما كانت الاشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع مستمرة، خاصة في الخرطوم ودارفور، إلا أن التركيز الإعلامي والشعبي انتقل إلى هذه الأحداث السياسية. خطاب البرهان، انقسام “تقدم”، توترات كينيا، وتوقيع الميثاق في نيروبي، إلى جانب الحديث عن التعديلات الدستورية، شكلت معاً مادة دسمة استحوذت على اهتمام الرأي العام، وأعادت السياسة إلى صدارة المشهد بعد أشهر من هيمنة العمليات العسكرية.

هذا التحول لا يعني توقف الحرب، بل يعكس تصاعد الصراع على الشرعية والسلطة في مرحلة ما بعد الحرب. فكلا الطرفين، البرهان وقوات الدعم السريع، يسعيان لفرض رؤيتهما للحكم، مستخدمين الأدوات السياسية بقدر ما يستخدمان السلاح. ومع استمرار الأزمة الإنسانية، التي أدت إلى نزوح أكثر من عشرة ملايين شخص ومقتل عشرات الآلاف، يبدو أن السودان يقترب من مفترق طرق حاسم: إما حوار شامل ينهي الصراع، أو انقسام فعلي يعمق المأساة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى