للحقيقة ثمن .. رحى الحرب تطحن الصحافة والصحافيين

تقليب في دفتر التضحيات الجسيمة التي يقدمها الصحفيون لتغطية الأحداث.. كيف باتت الصحافة نفسها هدفًا في الصراع الدائر؟

بسبب الحرب توقفت عن العمل 90 في المائة من المؤسسات الإعلامية السودانية 

تسببت حرب السودان بعد عامين في مقتل 21 من الصحفيين والصحفيات صحفيا مع تشريد واعتقال المئات

حالات الإخفاء القسري والاعتقال والاحتجاز بلغت 40  صحافياً بينهم ست صحافيات بينما أخفي قسرياً 

69  صحافياً منذ اندلاع الحرب 

بهاء الدين عيسى

“منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر” هكذا هو حال المئات من الصحفيين والصحفيات السودانيين بعد 22 شهرا من الحرب تسببت في مقتل 21 صحفيا وشردت واعتقال المئات منهم بينما تركت من تبقى منهم يعمل في ظروف أقل ما يقال عنها إنها كارثية خاصة بعد توسع أعمال الحرب العدائية إلى حوالي 12 ولاية في السودان من أصل 18 ولاية، في وقتٍ تناشد فيه منظمات محلية ودولية، طرفي القتال بضرورة تمكين العاملين في مجال الصحافة من القيام بواجبهم المهني، وعدم تعريضهم للمخاطر.

 وتسبّبت الحرب الدائرة بالسودان منذ الخامس عشر من أبريل 2023م في تعرّض عدد من الصّحفيات والصّحفيين إلى تعديات وانتهاكات جسيمة على أيدي عناصر تابعة للجيش السوداني، وأخرى تابعة لقوات الدعم السريع، في عدد من المدن السودانية، بينها مدن لا تشهد أيِّ مواجهات عسكرية، وفق منظمات حقوقية.

انتهاكات الدعم السريع

 في وجهٍ آخر لمعاناة الصّحفيين السُّودانيين خلال الحرب، “اختطفت قوة مسلحة” الصحفي علاء الدين أبو حربة من منزله بمنطقة شرق النيل، الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع. 

وتحدث أبو حربة لـ(أفق جديد)، عن تفاصيل عملية اعتقاله على أيدي عناصر ملثمة يرجح أنها تتبع لقوات الدعم السريع قائلاً:

 “بداية الحادث كنت في إحدى المحال التجارية قبل صلاة المغرب لشراء (أغراض) لأبنائي، وعلى نحو مفاجئ توقفت سيارة فارهة على مقربة مني بها أفراد مسلحون سألني أحد عناصرها “إنت عسكري جيش؟”، فقلت لهم لا أنا مواطن مدني، أين هويتك؟ فقلت لهم لا أحملها الآن وتم إجباري على ركوب السيارة عنوةً، للأمانة لم يكن يرتدون زي قوات الدعم السريع”.

 ويتابع علاء الدين “وقفت العربة على مقربة من نقطة شبكة اتصالات ويبدو أن العملية كانت على أعلى درجة من الاحترافية. لكنهم كانوا يرتدون (الكدمول)، والكدمول أو القناع الصحراوي، لثام كامل يشبه العمامة السودانية المعروفة، لكن على نمط مختلف من حيث اللون وطريقة اللبس، إذ يحجب كامل الوجه عبر تغطية الفم والأنف، ولكن من خلال تصرفاتهم معي يبدو أنهم يتبعون لجهة عسكرية”.

ويقول: توقفت العربة أمام منطقة شبكة الاتصالات والإنترنت – أي جهاز الإستار لينك وهو منصة لشبكة الاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية بعد الاستيلاء على هاتفي، وإلغاء شفرة دخول الهاتف وبعثوا برسائل لأطراف ذات علاقة بي يطالبون فيها بفدية قدرها (5) مليارات جنيه سوداني، وعنوةً تحت تهديد السلاح استطاعوا الحصول على كلمة السر لدخول تطبيق بنكك الخاص بي. 

التعطيش والتجويع

 ويتابع علاء الدين:”لم يتم التحرش بي، ولكن تعرضت لضرب قاسٍ بـ(الهِرَاوَات)، وضرب عنيف عن طريق الأسلحة والأيدي، إضافة للشتائم والألفاظ البذيئة، بعد ذلك بنصف ساعة تم أخذي إلى جهة مجهولة في منطقة شرق النيل، ليعود لي الخاطفون بعد يومين من الاعتقال، حينها تم إجباري على تسجيل مقاطع استجدي خلالها الناس بدفع الفدية حتى يتم إطلاق سراحي”. 

 “عشت في كابوس ووضع إنساني في غاية الصعوبة نحو (7) أيام في بعض الأحيان أمكث نحو (24-48) ساعة دون ماء شرب، وخلال فترة الاعتقال حصلت فقط على نحو (4) وجبات، مكثت فترة الاعتقال مغلول اليدين وفي بعض الأحيان معصوب العينين في غرفة مظلمة. 

ويضيف أبو حربة: “تعرضت للتعطيش والتجويع، وقضيت نحو سبعة أيام بالمعتقل في الفترة ما بين 25 أغسطس إلى 2 سبتمبر 2024، وبعد إطلاق سراحي لم ينفِ أو يؤكد قيادات الدعم السريع في وحدة تابعة لهم بمنطقة الرياض شرقي الخرطوم استدعائي بصورة رسمية”.

 “ولكني ذكرت لهم أن منطقة شرق النيل تخضع بصورة كاملة لقوات الدعم السريع، وأوضحت لهم أني لا أجزم ولا أنفي أنهم منسوبو قوات الدعم، ووعدوا بالتحري في الحادث، ولكن حتى الآن لم يتم ذلك ولم اجتهد في التواصل معهم لمعرفة ما تم بخصوص عملية اعتقالي. ورغم التعذيب الذي تعرض له الصحفي أبو حربة إلا أنه لا زال الصحفي علاء الدين متمسكا بالبقاء في بيته في العاصمة السودانية الخرطوم.

 تهديدات وتصفيات

 وبحسب مسؤولة الحريات في «نقابة الصحفيين السودانيين»، إيمان فضل السيد أن وتيرة انتهاكات الصحافيين السودانيين ارتفعت بصورة مثيرة للقلق خلال الحرب، من بينها 21 حالة قتل. 

 وبسبب الحرب توقفت 90 في المائة من المؤسسات الإعلامية السودانية عن الصدور، وتعرضت مقارها للتدمير بالكامل، كما أن الصحافيين يتم اعتقالهم بسبب تغطيتهم للحرب، وينظر إليهم «أعداء» لأحد طرفي الحرب. 

وتشير تقارير توثيقية إلى أن حالات الإخفاء القسري والاعتقال والاحتجاز بلغت 40 صحافياً، بينهم 6 صحافيات، في حين أخفي قسرياً أو احتجز 69 صحافياً، بينهم 13 صحافية منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل (نيسان) 2023.

مطالبات بفدية 

 وأدانت نقابة الصحفيين بشدة هذا العمل الذي وصفته بالإجرامي والبربري، وحمّلت قوات الدعم السريع المسؤولية الكاملة عن حياة علاء الدين أبو حربة. وأكدت أن تهديد حياة الصحفي أو المقايضة بها يمثل انتهاكاً صارخاً لكل القوانين والأعراف الدولية. 

 ووصف البيان عملية الاختطاف بـ”المنحى الخطر”، مشيراً إلى أن القوة المسلحة طلبت فدية مليون جنيه سوداني (نحو 300 دولار) لإطلاق سراحه، أو تصفيته جسدياً حال لم يصلهم المبلغ.

 وأشارت أن القوة المسلحة التي اعتقلت أبو حربة طالبت بفدية مالية ضخمة لإطلاق سراحه، مهددةً بتصفيته جسدياً إذا لم تتسلم المبلغ المطلوب، مشيرةً إلى أن القوة المسلحة ورغم تسلمها للمبلغ، ضاعفت الفدية من مليون إلى مليوني جنيه سوداني، ما يضع حياة علاء الدين أبو حربة في خطر داهم في أي لحظة، حسبما جاء في البيان. 

وواجه (30) صحفياً، بينهم (10) صحفيات إطلاق النار، مما أسفر على وفاة (15) من ذوي صحفيين وإلحاق أضرار جسيمة بمنازلهم.

كما وثّقت النقابة (60) حالة اختطاف واحتجاز قسري، بينهم (9) صحفيات و(6) بلاغات تعسفية تعيق عمل الصحفيين وتقيد حركتهم، وسجّلت (58) حالة تهديد شخصي، منها (26) ضد صحفيات، إضافةً إلى (27) حالة اعتداء جسدي ونهب ممتلكات بينها (3) ضد صحفيات.

اعتقال تعسفي

 الصحفية رشا حسن والتي تعمل مراسلة لموقعي “ألترا سودان” و”الراكوبة” هي الأخرى إحدى ضحايا الاعتقالات التعسفية، حيث اعتقلها أفراد يتبعون لقوات العمل الخاص من أمام محل لخدمة “إستار لينك” وقاموا بتفتيش هاتفها وحقيبتها، ومن ثم قادوها إلى وحدة الاستخبارات العسكرية التابعة للجيش، حيث خُضعت هناك للمرة الثانية للتحقيق لدى قائد الفرقة.

 وفي مقر الجيش خضعت رشا لتحقيق مطول عن عملها كصحفية ونشرها لتحقيقات صحفية تتعلق بقضايا فساد في الأراضي والشرطة بمحلية الدويم، شمل الجهات الصحفية التي تراسلها والأسباب التي أدت إلى قدومها إلى الدويم والجهات التي أرسلتها ومسألة عدم إبلاغها السلطات بممارسة عملها الصحفي.

 و تقول لـ ” أفق جديد “بعد التحري المطول، تم اقتيادي لغرفة مخصصة لاحتجاز النساء، وفي الليل حضر أحد أفراد قوات العمل الخاص وأبلغني بأنهم لا يريدون لي المبيت في الزنزانة، وأنه سيتم إخلاء سبيلي على أن أحضر صباح اليوم التالي”.

 “بالفعل التزمت بالعودة في اليوم الثاني لوحدة الاستخبارات العسكرية التابعة للقوات المسلحة في الصباح الباكر، كما تعهدت لهم، لكنني فُوجئت باقتيادتي مرة أخرى لغرفة الاحتجاز، وحينها عبّرت عن احتجاجي برفض تناول أي وجبة حتى الساعة الثالثة ظهراً”.

 اُستدعيت رشا مرةً أخرى لمقابلة قائد الوحدة وخُضعت للتحقيق للمرة الثانية عن الاسم والهوية والقبيلة، واكتشفت أنهم قاموا بإنزال برنامج مكنهم من استرداد كل محتويات جهاز الموبايل من صور وتسجيلات ومقاطع فيديو، بعد أن كانت تخلّصت منها قبل سنوات، وعبّرت عن استيائها بأنهم انتهكوا خصوصيتها بالاطلاع على معلوماتها في الهاتف.

 وكان سبب اعتقال الصحفية تقرير قوات العمل الخاص عن تصويرها لمدارس خُصِّصت لإيواء النازحين، لكنها أبلغتهم بأنّ الصور أُخذت بإذن من الجهات المختصة وكانت تخص عملاً صحفيّاً اُجري العام الماضي.

 وذكرت أن القائد أبلغها بأنه لا يعلم أسباب اعتقالها وإحضارها إلى القيادة العامة من قِبل قوات العمل الخاص، وأُخلي سبيلها مساء الاثنين، وأعادوا إليها هاتفها.

تهديد الأمن القومي

في يوليو الماضي، احتجزت قوة عسكرية قوامها ثلاثة عناصر مسلحة، الصحفي صالح محمد عبد الله بالقرب من سكنه بمحلية كرري، وحقّقت معه لأكثر من أربع ساعات، بعد أن أجبرته على فتح هاتفه.

 وإثر كشف هويته الصحفية، دوّنت الجهات العسكرية الموجودة ضمن مناطق سيطرة الجيش السوداني، بلاغاً يتّهم صالح بالضلوع في تهديد الأمن الوطني، لكنها أفرجت عنه لاحقاً مع مطالبته بمغادرة المنطقة، مُتوعِّدةً بإجراءات عقابية إذا بقي في المحلية.

قبل هذا الحادث بفترة قليلة، كان فصيلٌ عسكري آخر يتبع لقوات الدعم السريع اقتحم منزل الصحفي عمر هنري بحي مايو، جنوب العاصمة السودانية، الخرطوم، واقتاده قسراً، وهو مغلق العينين إلى مكان مجهول، متهماً إياه بالتخابر مع الجيش السوداني. 

 ونهبت القوة هاتف هنري وصادرت أمواله بعد إجباره على إعطائهم كلمة السر الخاصة بتطبيق معاملاته المصرفية، كما استولت على صفحته الشخصية بتطبيق فيسبوك واستباحتها بشكل كامل.

 في اليوم التالي، أسعفت مجموعة من المارّة الصحفي هنري بعد العثور عليه وهو في حالة إغماء كامل في إحدى طرقات الخرطوم مع ندوب وإصابات في أجزاء متفرقة من جسده.

لكن معاناة الصحفيين صالح وعمر تتضاءل إزاء النهاية المأساوية لحياة زميلهم بصحيفة “الجريدة السودانية”، معاوية عبد الرازق، الذي اغتيل في يونيو الماضي بعد الهجوم عليه في منزله بمنطقة الدروشاب بالخرطوم بحري، رفقة ثلاثة من أبناء الحي كانوا معه بعد أن كان تم اعتقاله في وقت سابقٍ واُحتجز لأيام من ذات الجهة بتهمة التخابر مع الجيش.

جريمة في الفاشر

 وفي يونيو “فقد الصحفي الشاب والناشط الإعلامي المستقل إبراهيم عبد الله)، حياته وهو يؤدي واجبه المهني، عندما سقطت قذيفة على منزله في مدينة الفاشر. إبراهيم الذي كان معروفاً باسم (إبراهيم شوتايم) ويُحظى بشعبية كبيرة بين متابعيه، كان يوثق المعاناة التي يعيشها الناس في المنطقة، رحيله المفاجئ فجع الكثيرين، وأكد مدى الخطر الذي يواجهه الصحفيون في السودان”.

 وخلال أشهر القتال المستمر بين الجيش السوداني والدعم السريع في العاصمة الخرطوم منذ منتصف أبريل من العام 2023، ظلت أجهزة الاستخبارات لدى الطرفين تنفذ حملة اعتقالات واسعة، تحت ذريعة التخابر لمصلحة الآخر، لكن ما فعلته قوات الدعم السريع كان الأكثر عنفاً وترويعاً للمعتقلين الذين قضي بعضهم تحت أيديهم.

واقع مرير

 وبحسب سكرتيرة الحريات بنقابة الصحفيين السودانيين، إيمان فضل السيد التي تحدثت لـ(أفق جديد)، فأن واقع الحريات الصحفية في السودان بعد مرور عام ونصف على الحرب مزري.

 وأشارت إيمان إلى خروج عشرات الصحف الصحف والمؤسسات الإعلامية عن سوق العمل منذ اليوم الأول للحرب والتي تقع غالبيتها في مناطق الاشتباك في محيط المنطقة العسكرية، ووجد الصحفيون أنفسهم بلا عمل.

وتابعت: “مستهدفون ومطاردون من قِبل طرفي الصراع الذين ينظرون للصحفي على أنه مجرمٌ، لأنه يحاول إظهار الحقائق التي يحاولون تخفيها وتدليسها وراء الشائعات والأخبار المفبركة”.

وبحسب إيمان “إنّ العام 2024 كان عاماً أسود في تاريخ الصحافة السودانية، حيث شهد مقتل (13) صحفياً خلال الحرب، كما تتحرى النقابة حالياً عن مقتل (3) آخرين من العاملين في قناة الخرطوم الدولية لمعرفة ملابسات مقتلهم. بجانب انتهاكات طالت (70) من الصحفيين والصحفيات من ضحايا الاختفاء القسري ، “كما تعرض نحو (60) من الصحفيين السودانيين لتهديدات من قِبل طرفي الحرب وجماعات أخرى مويدة للحرب من خلال إثارة خطاب الكراهية”. 

 منذ الوهلة الأولى لحرب 15 أبريل، تحوّلت وسائل الإعلام لأهداف مشروعة لطرفي الصراع، وفقد ألف صحفي وظائفهم، وهذه النسبة تمثل 50% من العدد الكلي المسجلين في سجل النقابة، ما أجبر بعضهم للتوجه إلى العمل في مهن أخرى.

 يقدم الصحفيون في السودان، تضحيات جساماً في سبيل تأدية وأجبهم المهني، ويواجهون محاولات التعمية والتغطية وإخفاء الحقائق والضغوط والإجراءات لتشويه الحقائق لإرضاء أحد الطرفين، ويدفعون ثمناً باهظاً للتمسك بالقيم المهنية والأخلاقية للعمل الصحفي.

فهل باتت «الصحافة» في السودان جريمة تقود إلى القتل والاعتقال والتعذيب والاختفاء بشكل ممنهج؟.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى