“الشفشفة” الدستورية!
وائل محجوب
“١”
- تحت نيران الحرب والدمار والموت، يستعر صراع وسباق الهيمنة والسيطرة على البلاد، ففيما تسابق الزمن مجموعة نيروبي، التي يتزعمها الدعم السريع قطب الحرب الرئيسي، وتضم حركات مسلحة وقوى سياسية بإجازة مواثيقها ودستورها، توطئة لتشكيل حكومتها الموازية، تنازع السلطة القائمة في بورتسودان على الشرعية، استبق الطرف الآخر بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وحلفائه خطواتها بتعديلات الوثيقة الدستورية لتكريس سلطتهم بشكل مطلق.
- هذا السباق الثنائي يشير بوضوح إلى حقيقة وجوهر هذه الحرب، في كونها تمثل طريقًا للهيمنة على السلطة مهما كلفت من دماء وموت وخراب، وتغذت بدفوعات الجهوية والقبلية، هذا هو سبب الحرب الرئيسي، لطرفي انقلاب ٢٥ أكتوبر المتصارعين.
- سعت التعديلات لتكريس سلطة عسكر مجلس السيادة، وحمايتها بالتعديلات الأخيرة على الوثيقة الدستورية التي لم يتبق منها إلا اسمها، وهذا التعديل هو الثاني للوثيقة، حيث كان الأول عقب انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م، الذي قاده البرهان وحذف وقتها الفقرات التي لها صلة بالشراكة مع قوى الحرية والتغيير باعتبارها تمثل قوى الثورة، والسلطات التي آلت للمكون المدني بموجب تلك الشراكة.
- وشملت التعديلات هذه المرة حذف أي نص يتعلق بقوات الدعم السريع، كما عدلت بنودها لتكريس السلطة العسكرية بشكل مطلق، ومددت فترة حكمها الانتقالي من جديد ٣٩ شهرًا.
- تعديلات الوثيقة شملت زيادة عدد ممثلي القوات المسلحة في مجلس السيادة لتصبح لها الأغلبية العددية، ومنحت المجلس سلطة تعيين وإعفاء رئيس الوزراء، كما منحته السلطة في تعيين وإعفاء مسؤولي الأجهزة القضائية والعدلية والشرطية والأمنية، ووضع السياسة الخارجية والإشراف على تنفيذها، وتم إلغاء البند الذي ينص على إنشاء المجلس التشريعي، وآلت سلطته لاجتماع مجلسي السيادة والوزراء بشكل دائم، كما شملت التعديلات إلغاء البند الذي نص على تشكيل لجنة التحقيق في فض اعتصام القيادة، والاستعاضة عنه ببند حول التحقيق في كافة الجرائم.
- يعلم البرهان ومن يساندونه أن هذه التعديلات، لن تفلح في إكساب سلطته الاعتراف الذي يسعون للحصول عليه إقليميًا ودوليًا، ويعني إقدامهم على هذه الخطوة أنهم سيواصلون في حربهم بلا أي حساب، وهدفهم المعلن بهذه التعديلات هو البقاء في الحكم مهما كانت الخسائر.
- تهدف هذه التعديلات للاستفادة من الدعم الشعبي الذي تحقق للقوات المسلحة في الحرب، وتحويله إلى رصيد سياسي ما بعدها، وهو تحليل خاطئ، فالالتفاف الشعبي الراهن حول الجيش، مبعثه نهوض الجيش للقيام بواجباته الدستورية في الدفاع عن الشعب، وهو استحقاق واجب وليس منة، فهذه هي مهام الجيش بحكم قانونه ودستور البلاد، وقسم الولاء الذي أقسمه كل فرد في المؤسسة العسكرية، كما أن الشعب هو الذي تحمل بالكامل أخطاء قيادة هذه المؤسسة من دماء أبنائه وأمواله وممتلكاته، فهي التي رعت قوات الدعم السريع، ومكنتها من كافة المقدرات العسكرية والاقتصادية والأمنية، وساندتها واستندت عليها في مواجهة الشعب وتطلعاته، وبالتالي فإن ما تقوم به القوات المسلحة حاليًا هو واجبها الدستوري وإصلاح لأخطاء قادتها، ولا يمنحهم ذلك الوضع تفويضًا مفتوحًا لحكم البلاد.
- وفي الجانب الآخر وبعد إكمال خطوات توقيع ميثاق التأسيس، شرع الدعم السريع والحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو والجبهة الثورية وقادة سياسيين في توقيع وثيقة دستورية، تفتقر لأبسط قواعد إعداد وصناعة الدساتير وإجراءاتها، وتضمنت أول ما تضمنت في بنودها إلغاء العمل بالوثيقة الدستورية لعام ٢٠١٩م، وبالطبع هذا الإلغاء لا قيمة قانونية ولا دستورية له، ولكنه جاء في إطار محاولات تجريد السلطة من سندها القانوني.
- كما نص الدستور المعني على تأسيس الجيش من الدعم السريع والجيش الشعبي والحركات الموقعة على الدستور، دون أي إشارة للقوات المسلحة وموقعها ودورها، وهي أساس التفاوض والجهة التي تضطلع قانونًا بحكم الدستور والقانون والمهام الوظيفية الفنية بعملية الدمج وإعادة الدمج والتسريح، كما تضمنت الوثيقة حلًا لكافة المليشيات اعتبارًا من تاريخ توقيعها، ولو كانت مثل هذه الخطوات تتم بمثل هذه القرارات الفوقية، لأثمر قرار البرهان بحل قوات الدعم السريع!
- على أن أهم ما تضمنته تلك الوثيقة هي إقرارها بالعلمانية وفصل الدين عن الدولة، كما تمت اعتبارها ضمن المبادئ فوق الدستورية، أي غير قابلة للمراجعة أو الإلغاء، وإذا تم ذلك لأي أسباب سياسية، يحق لأقاليم السودان المطالبة بتقرير المصير بشكل فوري، وهذه البنود هي ما تم تقديمه للحركة الشعبية لتكون جزءًا من هذا التحالف، وهذه ظلت أهم مطالبها منذ وقت طويل، وهي التي حرصت على تضمينها في مختلف اتفاقياتها مع مختلف القوى السياسية، ولكنها في ظل هذه الوثيقة المعيبة قانونيًا ودستوريًا، لا تمثل سوى اتفاقية جديدة تضاف لاتفاقياتها السابقة، ولا قيمة قانونية لها.
- إن قضية صياغة دستور لا يمكن أن تتم بهذه الطريقة القاصرة، التي تمت على أيادي مجموعة أفراد وتنظيمات يجمعها اتفاق سياسي سابق وشبهات انحياز جهوي وقبلي، فأساس صناعة الدستور هو مشاركة جميع أطياف المجتمع واتجاهات السياسة داخل البلد المعني بكل تبايناتها واختلافاتها.
- مهمة صناعة الدستور هي التوصل إلى منطقة وسط لهذه التباينات والاختلافات، وإيجاد أسس تمكن الجميع من التعايش، بحرية وكرامة ومساواة، وعدم اقتصار أو الغلبة لجهة جغرافية محددة، ولو كانت هذه العملية تتم بذلك الشكل الفوقي، وبمثل ذلك الاستسهال الذي رأيناه، لما اضطرت المعارضة السودانية في تسعينيات القرن الماضي، وهي وقتها كانت أعلى رصيدًا وتمثيلًا سياسيًا وجهويًا بما لا يقارن عن حشد نيروبي، للاكتفاء بإصدار “إعلان أسمرا للقضايا المصيرية”.
- إن ما يتم من “شفشفة دستورية”، وما يصاحبها من إجراءات سياسية على الجانبين، لن يفضي إلا إلى تكريس خطوات تقسيم وتفكيك البلاد الجارية حاليًا، وهذا السباق اللاهث لتكريس السلطة في بورتسودان، ومحاولات صناعة سلطة بديلة في مناطق الدعم السريع، مع ما يتم إعلانه من الاستعداد لطباعة عملة وإصدار وثائق ومستندات رسمية للمواطنين، وإمكانية الحصول على أسلحة متطورة وغيرها مما يتردد، كل ذلك الواقع هو بالفعل تكريس لتقسيم البلاد، ليس كما يتصور البعض على نموذج ليبيا، إنما تفككًا كاملًا بالنظر إلى تعدد مواقع سيطرة الجيوش والحركات المسلحة المختلفة، وضعف إن لم يكن انهيار قبضة الدولة المركزية وظلها الإداري.