حافيًا في دروب نهج البلاغة

السر السيد

السر السيد
ولأن الكتب مثل العطر تبهج الإنسان وتسكن روحه وتمنحه المتعة، والمعرفة، والفرح والارتياح سمى الكتاب بـ”خير جليس”. على تنوع الكتب التي قرأتها وصادقت بعضها إلا أنني دائمًا ما كنت أحس في أعماق نفسي إن لكتاب نهج البلاغة مكانة خاصة عندي، فكثيرًا ما هرعت إليه في أوقات الشدة والملمات وفي أوقات اليسر والحبور. وكنت كلما اشتقت إلى ملامسة الجمال والحكمة والعرفان، وتذوُّق الحرية والعدالة وتنسُّم رائحة النضال “الإمامية”، أفرُّ إليه وأمشي حافيًا في دوربه التي تصل الأرض بالسماء والسماء بالأرض.
لكتاب نهج البلاغة حضور عظيم في ذاكرة القراءة وفي ذاكرة المكتبة الانسانية الواسعة، فقد احتفى به نفر من كبار العلماء والمفكرين وفي مختلف الحقب ومن مختلف المدارس الفكرية والاتجاهات، وأخذوا ما جاء فيه بقوة وتدبّر، لذلك حظي بالكثير من الدراسات والشروحات والتحقيقات والتعليقات، فقد شرحه الشيخ حسين جمعة العاملي، وابن أبي الحديد المعتزلي، والإمام محمد عبده، والشيخ صبحي الصالح، وكتب وعلّق على بعض ما جاء فيه، الجاحظ، وهادي العلوي، وعلى شريعتي وغيرهم، كما اهتم به نفر غير قليل من المستشرقين، فقد قال عنه المستشرق الفرنسي هنري كوربان: “إنه من الآثار اللغوية والبلاغية العظيمة للإمام عَلِّي الذي أعطى اللغة العربية صيغتها النهائية وألبسها ثوب البلاغة البديع”.
نهج البلاغة، الذي جمعه وحققه الشريف الرضي، الذي يحوي خطب ومواعظ ورسائل ووصايا أمير المؤمنين التي جاءت في أنصع وأبلغ وأجمل أساليب اللغة العربية، يُعد من أعظم المعارف التي أنتجتها الحضارة الإسلامية، وكيف لا؟ وفيه من روح الإيمان والمعرفة اللدنية ما فيه، ولا غرابة هنا، فهو كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، ربيب النبي “ص”، والوصيُّ، وباب مدينة العلم، وأول الذين طهرهم الله من الرجس.
مما جاء في الكتاب من حكم وخطب وصايا انتخب بعضًا من كلام الإمام لصحابه الأثير كميل بن زياد فقد قال له:
“… اللَّهُمَّ بَلَى لاَ تَخْلُو الاَْرْضُ مِنْ قَائِم لله بِحُجَّة، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، أوْ خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلاَّ تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُهُ. وَكَمْ ذَا وَأَيْنَ أُولئِكَ؟ أُولئِكَ ـ وَاللَّهِ ـ الاَْقَلُّونَ عَدَداً، وَالاَْعْظَمُونَ قَدْراً، يَحْفَظُ اللهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ، حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ، وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ، هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ، وَبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ، وَاسْتَلاَنُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ الْمُتْرَفُونَ وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ، وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَان أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْـمَحَلِّ الاَْعْلَى، أُولئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ فِي أَرْضِهِ، وَالدُّعَاةُ إِلَى دِينِهِ، آهِ آهِ شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِمْ”.
انْصَرِفْ إذَا شِئْتَ .
ومن كلامه في وصف “المتقين:”، نذكر قوله: “… فمن علامة أحدهم إنك ترى له قوة في دين، وحزمًا في لين، وإيمانًا في يقين، وحرصًا في علم، وعلمًا في حلم، وقصدًا في غنى، وخشوعًا في عبادة، وتجملًا في فاقة، وصبرًا في شدة، وطلبًا في حلال، ونشاطا في هدى، وتحرجًا عن طمع….”. وفي كتابه للصحابي الجليل وذراعه الأيمن مالك بن الأشتر لما ولاه على مصر، فقد كتب له: “وإنما عماد الدين وجماع المسلمين، والعدة للأعداء، العامة من الأمة، فليكن صغوك لهم، وميلك معهم، وليكن أبعد رعيتك منك، واشنأهم عندك أطلبهم لمعائب الناس، فأِن في الناس عيوبًا، الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها…”، وقال في القصار من كلماته: “احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع”، وقال: “الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة”، وقال: “من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ”.
في دروب نهج البلاغة يستجم المحبون ويرتاحون وينهلون من معين لا ينضب من الحكم، والرؤى، والأفكار، في دروبه يكتشفون ذواتهم ويتذوقون طعم الدنيا والآخرة.. ففيها أناشيد للعدل والحرية والكرامة والجمال والخير، وفيها رفض ومواجهات للظلم والظالمين، وفيها خارطة للسير نحو الله ومحبته ومعرفته.. فيها تعليم للإنسان في ضرورة أن يكون حرًا وربانيًا.
في دروبه مؤانسة وإمتاع، ومعرفة لم تفارقني أو أفارقها منذ أن تعرفتُ على هذا الكتاب النورانيُّ الجميل.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى