حكاية من بيئتي

ماروق الباشا 

 

محمد أحمد الفيلابي

ولأن ضفتي النهر في تلك البقعة بلا أشجار كثيفة تجحب الرؤية، فقد كان من الممكن مراقبة القطارات التي لم تكن حركتها لتهدأ في ذلك الزمن. بل بالإمكان أن تحصي العربات. فقطارت البضاعة تئن تحت حملها وهي تبطئ سيرها دخولاً إلى تلك (السندة)، وخروجاً منها، مثلما كانت تفعل قطارات الركاب عند نقطة التقاء نظرات المزارع العجوز (الباشا)، بموقع مرور القطار.

يلقبونه بـ(الباشا) لا لأنه يشبه الباشوات في مخيلات أهل القرية إلا بطول صمته. وبتلك الآراء الحاسمة التي يجود بها حين تنقطع بالناس حبال التفكير.

كان صالباً جسده النحيل المتعرق تحت شمس الصباح، ورطوبة ما بعد انحسار النيل عن الجروف. كان نصف عارٍ، تنتشر العروق على يديه وساقيه، وقد أراح راحة قدمه اليمنى على ركبة يسراه، مُستنداً إلى سلوكته  المنغرسة في الطين. هي وقفة استراحة أكثر منها فضولاً  لما يجري عبر النهر. ومع أنه قليل الكلام، لكنه هتف باسماً، وقطار البضاعة الطويل يعبر مترنحاً:

ــ هلاّ هلاّ.. والله كان الواحد يلقاهو كلو شحنة ماروق !!

ضحك ابناه وابن عمهما ليس بعيداً عنه، والسلوكة الثانية تسعى انغراساً وانقلاعاً بعد تلك الحركة نصف الدائرية، لإحداث الحفرة تغشاها من يد الآخر البذور، وتدفن بالقدم المحملة بأرتال من الطين. وعلق ابن العم فيما يشبه الهمس:

ــ أبوك ده بدل يقول شحنة نكتوت، وللا تمُر، وللا (حلاوة قطن) يقول ماروق؟ 

اقترب منهما الابن الآخر المتوقف عن العمل جراء وقفة استراحة الأب، وهو يحس سخرية في حديث ابن عمه. وأراد ان يذهب بأمنية أبيه في عمق الأحداث التي كانت تعصف بهم، أثناء فترة الفيضان.

ــ الموية السنة دي ما وصلت الناطور. و(الكروة) غرقت بي سبب المشروع الفاشل ده. يعني الواطة محتاجة تتسمّد وأبوي عارفين براااكم ما بدور السماد الصناعي. وقطع حديثه حين سمع النداء..

ــ أرح.

تواصل العمل، بعد أن تبادل الأب وابنه السلوكة وإناء البذور. وقاطرة (الماروق) مازلت تضج في رأس (الباشا). والتفكير في زراعة البصل تشغل باله. وهمس ابن الأخ:

ــ أخوك زعل مني وللا شنو؟

ــ أبوي نحن داير نمشي نجيبها من حد حاج حسين ونلاقيكم.

ــ سمح.

أدرك الابن الغاضب (قليلاً) أن أخاه أراد الابتعاد بابن عمه ليواصلا ما كان يجري بالأمس حين كان يعدون العدّة لزراعة الجروف. وكما هي العادة كان (الباشا) هو أول من يزرع جرفه مستعيناً بابنيه الطالبين بثانوية القرية، وابن أخيه القادم من قريتهم، بغرض الدراسة في ذات المدرسة.

دار الحديث في ذلك الصباح وبعده حول النيل الذي لم يصعد إلى الأماكن التي كان يصلها قبلاً، ليس لأنه أقل من فيضانات الأعوام السابقة، بل لأن تصريفه لم يحدث كما كان في السابق. وظلت بعض الأماكن التي كان يتغشاها في كل عام في حالها من الغباش في هذا العام.

ــ يأكل من هنا، ويردم هناك.

هكذا يكون تقرير (الباشا) عند تفسيره لضيق مساحة الجروف أو اتساعها، وكمية الطمي المتراكة، تلك التي كان تتوزع في حال الانتشار على مساحات أوسع، لكن الحوض الفيضي كان يستأثر بالكثير من الطمي، حين كانت تلك القناة الصناعية هي متنفسه الوحيد. والشاهد أن الأسلاف كانوا يجابهون الفيضان، بحفر تلك القنوات في موازاة مجرى النهر، بيد أنّ هذه القنوات دفنت تحت ركام الجهل والتجاهل والإهمال. بل حتى الحوض الفيضي الذي كان يمثل منتهى الفيضانات تم ردمه وقطع أشجاره ليصبح مشروعاً زراعياً دون دراسات حقيقية.

أبان القامة الطيب صالح ما يتعلق بتلك القنوات حين ذكر أن “الذين حضروا أيام الإنجليز من المخضرمين أمثالي يذكرون أن فى المديرية الشمالية كانوا يشقّون قنوات على ضفتى النيل على طول امتداده فى ذلك الإقليم. كان لذلك فائدتان حين يفيض النيل يفتحون تلك القنوات فيسيل النيل على الضفتين فتمتص الأرض الظمأى فائض الماء من النهر، فلا يحدث الخراب والدمار الذي يحدثه إذا لم يجد متنفساً، وقد كان ذلك في ظني الهدف الأهم من فتح تلك القنوات. الفائدة الثانية هى أن ماء الفيضان يصل إلى أماكن لا يصلها عادة فتكون زراعات ومراعى أغنام وغابات طلح وسيال وعشر وغير ذلك، كان يثبتّ الأرض الرملية ويقى من رياح السموم ويبسط الظل على عدوتى النيل”.

تنكرنا لكل ذلك، وأصبحنا منذها في القرى المحاذية للنيل، نترنح ما بين حياة القرية التي كانت، وهذه المدنية الزائفة الزاحفة نحونا، خاصة القريبة من المدن. فقدنا أهم مقومات حياة أهلنا (الزراعة)، لا لأن الأراضي الزراعية أصبحت بلا قدرة على استعياب ورثتها من الأجيال، ولكن..

ــ كان لأبي شقيق واحد هو والدك، وشقيقتان تنازلتا عن إرثهما في مقابل مادي كفل لكل منهما حجاً لبيت الله، ومساهمة في تزويج الأبناء. ولكن ها قد آلت ذات المساحة لأكثر من عشرة أفراد في أسرتينا.

كانا قد وصلا في حوارهما إلى أن القرية نفسها لم تعد تلك التي كانت.

حين يكون هناك “مجموعة من الناس أو المجتمعات الصغيرة المختلفة الأعداد – بين عشرات وآلاف، تحاول حل المشكلات البيئية والاجتماعية عبر اتباع أسلوب حياة مستدام، خفيف الوطأة على الأرض والناس، فهذا يعني أن القرية هي قرية بيئية (إيكولوجية) كما تقول الدكتورة أمينة التيتون. وكان المصطلح، وفقاً للدكتور مجدي سعيد قد ظهر عام 1996 ضمن قائمة الأمم المتحدة لأفضل الممارسات، ووصفت القرى البيئية بأنها “نماذج ممتازة للعيش المستدام”، حيث يشعر الناس بدعم ومسؤولية تجاه محيطهم ومن حولهم، ويعمّ الشعور العميق بالأمان والانتماء للمجموعة، ويتشاركون الموارد فيما بينهم، وكذلك القرارات التي تؤثر في حياتهم.

وكان الأمر قائماً في عدد من القرى، حيث البيوت البيئية المنشأة من الطين وفروع الأشجار، الدافئة شتاء والباردة صيفاً، والمحاطة بأشجار الأكاشيا والطندب وبعض الشجيرات. وفي قريتنا كانت تلك الغابة الصغيرة التي تفصل البيوت عن الحوض الفيضي الذي يشكّل موئلاً مستداماً للطيور المهاجرة والمحلية، وتزرع مساحته المشبعة بالطمي بمحاصيل استهلاكية عند نزول الماء.. محاصيل يمكن أن توفر بجانب الغذاء الآمن، بعض النقود لشراء مستلزمات حياة بسيطة من كساء ودواء وغيره.

مرت عشرات الفيضانات على قريتنا الصغيرة الواقعة على الضفة الغربية للنيل نواحي شندي من دون خسائر تُذكر، غير أنها كادت أن تنمّحي من الخارطة إبان فيضان 1988، بسبب المشروع الزراعي الذي أنشئ في أواخر سبعينيات القرن الماضي على أرض الحوض الفيضي بقنواته الطبيعية والصناعية، ومحابس مائه.

انكسرت عامئذٍ قناة الري الرئيسية بالمشروع، لتنفلت المياه مُحدثة خسائر مادية جسيمة أدت إلى إغراق الزرع ليضيع حصاد ذلك العام. مثلما ضاع منذها اليقين بأن هناك من بين الممسكين بخيوط إدارة البلاد من يعي “أن من شأن الترويج للنظم السليمة بيئياً، وللإدارة الجيدة للموارد أن تحقق نظم إنتاج غذائي أعلى متانة، وأكثر مرونة، بما في ذلك السيطرة على الآفات والأمراض، وتحلُّل النفايات، وتنظيم دورات المغذيات، واحتباس الماء، وصون موارد التربة، والتلقيح المحصولي. وهذا يعني أن أسلافنا كانوا أكثر وعياً منا ببيئتهم، وأن لهم من المعارف التقليدية وخلاصة التجارب ما يضاهي دراسات عديدة في هذه المجالات، أو قل الممارسات التي تتجاهل هذه الدراسات. وأنهم كانوا أكثر التزاماً نحو مستقبل الأجيال.

(الماروق) لدى (الباشا) وأقرانه من الأسلاف هو غذاء الأرض الذي يكمل دورة الحياة. يستخدمونه دون وعي منهم أنهم إنما يقومون بعمليات بيئية متداخلة ومتقاطعة، منها تخليص وجه التربة من القاذورات والنفايات، ومنها توفير الغذاء للأحياء الدقيقة لتقوم بتخصيب الأرض، ومنها الحصول على الغذاء الصحي الآمن.

وقد كنت ألحظ وأنا طفل يدرك قليلاً مما حوله، ويغيب عنه الكثير، أنه مثلما تتبدّل أنواع المزروعات من حبوب وخضار وعلف ومحاصيل أخرى، تتحول حظائر الحيوانات في كل موسم من مكان إلى آخر، وغالباً ما تُشيّد وسط فضاء يزرع في ما بعد بمحصول غير الذي كان مزروعاً قبلاً. أما الاستخدام الآخر للنفايات، أو إعادة تدويرها كما يصطلح عليه الآن فقد نعود إليه في حكاية أخرى.. (حكاية من بيئتي). ونلتقي..

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى