أشكان… سيرة ذاتية

قراءة أولى

السر السيد

السر السيد

صدر الكتاب في طبعته الأولى التي هي بين أيدينا الآن في العام 2019 عن دار مدارك للطباعة والنشر… الكتاب من تأليف الدكتور محمود صالح شينكو، ويقع في 258 صفحة من القطع المتوسط بما في ذلك المقدمة وفصول الكتاب والملاحق .

عن الكتاب :

ولنبدأ بالاهداء فكما تعلمون أن الإهداء يشكل عتبة من عتبات قراءة أي مؤلف بما يحمله من إيحاءات ودلالات، فالإهداء في هذا الكتاب جاء معبرًا عن الروح العامة وعن الفكرة الكلية للكتاب أو فلنقل للسيرة التي هي احتفاء بالحياة.. بالناس والمكان بما يحمله هذا الاحتفاء من حنين ومحنة ورحمة واحتفال، فهو كما جاء في الكتاب إلى عموم الصبيان والشباب والنساء والرجال في السودان والعالم ليعلموا كيف عشنا في ذلك الزمن، وإلى الوالد صالح شينكو والوالدة نفيسة، وإلى الزوجة ليلى عبد الحميد التي أسعدتني بمسارها الراقي ومكنتني في عملي ومساهماتي للسودان والعالم.

كتب التقديم لهذه السيرة صديق المؤلف الأستاذ عوض محمد الحسن، وهو تقديم  أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه جاء دقيقًا بل ومعبرًا عن دراية بالكتاب ومعرفة بالكاتب، فقد وردت في هذا التقديم إشارات مهمة جدًا كالإشارة إلى اللغة والأسلوب، والإشارة إلى أن هذا الكتاب هو المؤلف الأول للكاتب حيث لم يسبق له أن ألف قبله كتابًا، وهما إشارتان مهمتان خاصة الأولى التي أشارت إلى واحدة من تقنيات الكتابة في هذه السيرة الذاتية .

في متن الكتاب :

يتكون الكتاب من 16 فصلًا، ويتكون كل فصل من عناوين فرعية تعبر مجتمعة عن عنوان الفصل الرئيس، ولنأخذ الفصل التاسع كمثال لبقية الفصول فقد كان عنوانه الرئيس (كوميه وصبري) أما عناوينه الفرعية فقد جاءت كما يلى :

“المعيشة في القرية – الحيوانات المتوحشة – كوميه والقرية – اغتيال كوميه – كوميه والعدالة – صبري”… نلاحظ في فصول الكتاب تفاوتًا في عدد الصفحات وفي عدد العناوين الفرعية بين فصل وفصل، ونلاحظ كذلك أن الفصول من  الفصل الأول إلى الفصل الرابع عشر كرست بشكل أساس للحديث عن “أشكان” وما حولها من بلاد النوبة، بينما الفصلان الخامس عشر والسادس عشر متحركان ومتعددان  الأمكنة ( الخرطوم – عطبرة – كوستي – إلخ)… هذه الملاحظة تقودنا مباشرة إلى عنوان الكتاب: (أشكان.. سيرة ذاتية) وفيه نقول إن هذا العنوان جاء غامضًا ومما زاد في غموضه، العنوان الداعم أو المفسر؛ ونعني جملة سيرة ذاتية، فكلمة أشكان وحدها للذي لا يعرف إنها قرية سودانية من قرى النوبيين في شمال السودان لم تعد الآن موجودة فقد اختفت من الوجود بفعل قيام السد العالي؛ ستكون مثيرة للتساؤل فقد كان بإمكان المؤلف أن يجعل عنوانه “قرية أشكان.. سيرة ذاتية” أو “قريتي أشكان.. سيرة ذاتية” ولكن وضع المؤلف أشكان هكذا دون تعريف منح العنوان بعدًا تشويقيًا وزوده بحالة استفهامية كبيرة، هذا إضافة لما تحمله كلمة أشكان من جرس موسيقى ملفت، وإلى ما يمكن أن يحيل إليه العنوان الداعم “سيرة ذاتية”. ولعل فيما أشرنا آنفا يكمن ما يعرف نقديًا بإستراتيجية العنوان، حيث لم يعد من الممكن قراءة أي مصنف أيًا كان مجاله دون اشتغال على العنوان.

في تقنيات السرد :

ونعني بها الطرائق التي تم بها السرد، ونستخدم مصطلح السرد هنا بفرضية أن “المذكرات والسير الشخصية” بشكل عام يمكن أن تصنف كنوع من السرد، حيث أنها لا تخلو من الحكاية بعناصرها المعروفة من زمان ومكان وشخوص وأحداث، لذلك كثيرًا ما نجد هذا النوع من الكتابة لا يخلو من تماس ما أو صلة ما بالرواية كشكل إبداعي له مقوماته. أما التقنيات التي سنقف عندها في كتابنا هذا فيمكن إجمالها في :

أولًا: اللغة :

ونجد أن هذه السيرة قد استخدمت أكثر من لغة، فقد استخدمت العربية الفصحى، أي اللغة الرسمية “لغة الدولة ولغة التعليم خاصة في ما كان يعرف بالمرحلة الأولية في ذلك الوقت، ونسميها الرسمية لإشارة المؤلف إلى إلزاميتها حتى خارج مقاعد الدرس، ومن لم يلتزم بهذا فلا خيار له سوى الجلد أو الغرامة” .

* اللغة العربية الدارجة وهي موجودة بكثرة في ثنايا السرد.

* اللغة النوبية وهي أيضًا موجودة بكثرة.. نلاحظ أن الكاتب لم يستخدم اللغة الإنجليزية مع انها لغة التعليم الأكثر حضورًا في زمن المؤلف، كما نلاحظ خرقه في مواضع كثيرة لمواضعات اللغة العربية الفصحى كتذكير المؤنث وتأنيث المذكر والخلط في جمع المذكر وجمع المؤنث، فكثيرًا ما يجمع المؤنث على قاعدة جمع المذكر… هنا أرى أن هذا التنوع في اللغات والتداخل فيما بينها الذي احتشدت به هذه السيرة الشخصية، يعبر ولو بشكل خفي عن هوية تتنفس في الاختناق يعيشها الكاتب ولكن دونما ضوضاء وهتافية.

ثانيًا الأسلوب:

نلمس حضورًا لمستويين مهمين للسرد يتمظهر عبرهما الأسلوب، الأول الكتابة والثاني المشافهة، ونعني هنا أن هذه السيرة في مواضع تعبر عن نفسها  أي تحكي عن طريق الكتابة، وفي مواضع أخرى تعبر عن نفسها – أي تحكي عن نفسها – على طريقة الكلام.. هذه الإزدواجية في التعبير الذى حكم الأسلوب من وجهة نظري جاء متسقًا مع ما تفرضه الذاكرة وما تتحكم فيه طاقة التذكر، خاصة مع طول الزمن ومع اختفاء المعالم كما في سيرتنا هذه.. قصدت أن القارئ قد يحس إنه يقرأ وفي مواضع أخرى قد يحس إنه يسمع وفي كل جمال.

ثالثًا تقسيم الكتاب أو السيرة إلى فصول:

هذه التقنية أفادت الكاتب في ضبط الحكي والسيطرة عليه خاصة وأنه يقوم على الذاكرة وعلى التداعي الحر، وبالتالي منعته من التكرار المستهجن، وفي نفس الوقت مكنته من التذكر بشكل أكثر وفرة ودقة.

في ما قاله الكتاب :

بداية يمكننا القول إن هذا الكتاب “الجزء الأول من السيرة” حيث سيصدر الجزء الثانى قريبًا إن شاء الله… كتابة في  المحبة والمحنة والحنية والحنين.. يبدأ من طفولة الكاتب وحتى دخوله جامعة الخرطوم… يقدم بالأساس سيرة للمكان تزاوج بين الخاص والعام وتنهض على طريقة أشبه بكتابات الرحالة الأجانب، وبرغم حضور العاطفة والخيال إلا أننا نلمس حضورًا للمعلومات الدقيقة والموثقة كأسماء الأشخاص والأماكن وقياس المسافات، وكالحديث عن نظم المدارس والمناهج الدراسية. وبما أنها سيرة مكان بالأساس – كما افترضنا – سنجد أن العنصر المهيمن فيها هو وصف المكان ثقافة وتاريخًا فسنجد حضورًا للعادات والتقاليد والألعاب ووسائل كسب العيش، وأنواع الطعام والفنون والأنظمة واللوائح، كان هذا في أشكان “المكان الرئيس للسيرة” أو في وادي سيدنا أو في عطبرة… بين هذه العلاقات والعوالم والأحداث يحضر الخاص الذي نعني به ما يتصل بكاتب المذكرات، على أن هذا الخاص باستمرار يتخفى في العام بمعنى أن هذه السيرة لا تبرز حضورًا معتبرًا كبيرًا لصاحبها فهو باستمرار مع أقرانه ومع مواطنيه، مع ملاحظة أن هناك مواضع أشار فيها إلى وقعها الخاص عليه كقبوله في المدرسة الأولية إذ كان هذا أمرًا عصيًا في ذلك الوقت، ـوكلحظة ختانه، أو يوم أن تكلم؛ فقد تأخر في الكلام كما أشار، أو لحظة ملابسات موت والده.

ما يلفت النظر في هذه السيرة هو ما يمكن تسميته بالحساسية العالية تجاه “النوع الاجتماعي”، فهو باستمرار يستخدم عبارة نساءً ورجالاً، كما إنه لا يتوانى في ذكر أسماء النساء وأدوارهن جنبًا إلى جنب مع الرجال بل لقد لاحظت أنه ينسب الأبناء إلى أمهاتهم كقوله (مختار آمنة) للإشارة إلى { مختار محمد عثمان}، وقد يعود هذا إلى الثقافة النوبية.

السيرة والقارئ :

هنا أتحدث عن التلقي لهذه  السيرة أو هذه الحكاية، وـعني ما يعرف بالأثر الفني،  فبالنسبة لي سيكون القراء على النحو التالي:

* المعاصرون من السودانيين عامة الذين عاشوا تللك الفترة موضوع السيرة، ومن النوبيين بشكل ـخص، وهم الذين على دراية بتلك المنطقة وبما حدث فيها بعد قيام السد العالي بطريقة أو بأخرى .

* الأجيال الجديدة من السودانيين عامة، ومن النوبيين بصفة خاصة، وهم يفتحون هذه الذاكرة المأساوية ويتجرعون كل هذا الحنين.

* قراء اَخرون من غير السودانيين وهم من سيتعاملون مع هذه السيرة دون خلفيات مناطقية أو عرقية أو ثقافية، وهي حتمًا ستترك أثرها فيهم بما تحمله من حنين وشجن وأسى وفقد.

هذه المستويات للتلقي بالطبع تتداخل مع بعضها، فثمة ذاكرة عامة مشتركة يتوارثها كل القراء خاصة السودانيين، وثمة معطى حتمى يتصل بالحكاية نفسها يجد صداه عند كل القراء، وأعنى ما يتصل بتقنية الحكي باعتبار أن السيرة  كتابة أو نصًا له منطقه الداخلي .

لما كانت هذه السيرة كتابة في المحبة والمحنة والحنية والحنين بامتياز، فإنها إضافة لما تقدمه من معلومات فهي تثير الشجن والحزن والشعور بالأسى والفقد لأنها باختصار تتحدث عن مكان لم يعد موجودًا وجودًا فيزيائيًا وإن كان عبقه وروحه لا يزالان يحلقان في الفضاء والفؤاد والقلب والذاكرة .

هذه سيرة مختلفة وجميلة، استطاع المؤلف وبجدارة أن يخلق مسافة خلاقة بينه وبين ما يكتب، كما استطاع أن يصنع من حزنه الخاص وشجنه الخاص حزنًا لكل السودانيين، بل لكل قارئ من غيرهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى