وطنٌ يئن تحت ثقل الغياب

 

يمرّ السودان اليوم بمرحلة مفصلية من تاريخه، حيث تتقاطع المعاناة الإنسانية مع الانهيار السياسي والامني  في مشهد يعكس وطأة الحرب المستمرة، التي ما زالت تمزّق جسد الوطن منذ أكثر من عامين. النزيف لم يعد مجازًا، بل حقيقة تتجلى في مئات القرى المدمّرة، ومدن كاملة تحوّلت إلى أطلال، وملايين من النازحين والمشردين، ممن يبيتون على قارعة الإهمال الدولي والخذلان الإقليمي، بينما يغيب أي أفق واضح للحل أو حتى وقف مؤقت للنزاع.

ما يُثير القلق ليس فقط استمرار العمليات بل الاتجاه بسرعة الصاروخ نحو حرب الكل ، بالتزامن البلاد مع حالة من “الغيبوبة السيادية”؛ فراغ سياسي ودستوري، وغياب كامل لمؤسسات الحكم، وعجز القوى المدنية عن لعب دور محوري في حماية ما تبقى من بنيان الدولة المنهار. وسط هذا الانفلات، أصبحت أرواح المدنيين رهينة صراع على النفوذ والسلاح، فيما يُستخدم الجوع والدمار كسلاح حرب في حد ذاته.

المؤلم في المشهد السوداني أنّ الموت لم يعد يثير الدهشة، ولا النزوح يستدعي العناوين. تلاشت صور الضحايا من واجهات الإعلام الدولي، ولم تعد الخرطوم أو الفاشر أو نيالا تشغل حيزًا في نشرات الأخبار كما كانت تفعل في بدايات الحرب. وكأن العالم قد اعتاد على وجع السودان، أو قبِل ضِمنيًا بأن يكون هذا هو قدره. أما الجيران، فبعضهم يصمت، والبعض الآخر يوظف الأزمة السودانية في حسابات النفوذ والتوازنات الإقليمية، دون أن يضع معاناة الشعب السوداني في قلب المعادلة.

لكن، على الرغم من القتامة، فإن اليأس لا يمكن أن يكون قدر السودانيين. في خضم هذه المأساة، يواصل السودانيون العاديون تقديم أروع صور التماسك الاجتماعي، من حملات الإغاثة الشعبية، إلى المبادرات المدنية المحلية التي تسعى لتوفير الغذاء والدواء والتعليم في مناطق النزاع وغرف الطوارئ نبراس في هذه العتمة. كذلك، لا تزال هناك قوى وطنية ترفض الانجرار إلى مستنقع الاستقطاب، وتعمل بصمت لبلورة مشروع إنقاذ يعيد للسودان روحه ومكانته.

إنّ مسؤولية وقف هذا النزيف لا تقع على طرف واحد فقط، بل على الجميع: أطراف الصراع التي يجب أن تعي أن النصر على الوطن هزيمة للجميع، والقوى المدنية التي ينبغي أن توحّد صفوفها وتقدم مشروعًا جادًا للانتقال، والدول الفاعلة التي عليها الكفّ عن إدارة الأزمة بالتحكم عن بعد، والبدء في دعم حل سياسي شامل، عادل ومستدام.

السودان ليس ساحة فرعية لصراعات الآخرين، بل بلد له تاريخ وكرامة وشعب يستحق الحياة. ولذا، فإن إيقاف الحرب وإعادة بناء الدولة ليس ترفًا، بل ضرورة وجودية، لأن استمرار هذا “الوضع النائم النازف” يعني نهاية دولة محورية وذات ثقل في القارة الأفريقية.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى