من كتابي (جهنم المسرح وفراديسه)

"وسواس"... مجنون يحاكم العقلاء:

 

السر السيد

العرض من تأليف الممثل والمخرج المعروف الأستاذ الرشيد أحمد عيسى.. أخرج العرض المخرج يحيى فضل الله العوض، وقام بالتمثيل فيه الممثل محمد عوض الشهير بـ”كوبر” ويحيى فضل الله.. قُدم العرض فى نسخته الأولى في مقر الجالية السودانية بمدينة تورنتو في كندا بتاريخ 18 سبتمبر 2021، ثم عُرض مرة أخرى في مقر الجالية السودانية بمدينة هاملتون في كندا بتاريخ  16 أكتوبر 2022، وأهدي للفقيد الشاعر والكاتب والمخرج الإذاعي خطاب حسن أحمد.

هذه المقالة معنية بالعرض الثاني في نسخته المصورة “فيديو” التي هي من تصوير مصطفى يحيى فضل الله، ومونتاج عادل عوض.

يضعنا عنوان العرض “وسواس” الذي لم يأت معرفًا بالألف واللام، يضعنا مباشرة فى عوالم الطب النفسي لنجد أنفسنا بعد رفع الستار أمام شخصيتين يكشف تطور العرض أنهما أخوين شقيقين هما صابر الأخ الأكبر، وصالح الأخ الأصغر، وأنهما موجودان في مكان تشير العلامات المؤسسة له “جبة/ لوح/ مسبحة/ جركانات مليئة بمياه سوداء اللون “محاية” /مقاعد خشبية وتربيزة” إلى أنه (غرفة) ملحقة بـ”خلوة” لأحد الشيوخ الذين يرون أن من بعض مهامهم علاج المرضى النفسانيين.. هذا المكان المؤَسس على ديكور بسيط وُظِّف ليفي بموضوع العرض الذي هو “سيرة شخصية لمريض نفساني”، تجتهد أسرته في البحث عن كل ما يساعد في علاجه وما يتخلل هذا البحث من قصص وذكريات عن الناس والأمكنة التي عايشها منذ طفولته وحتى وجوده في هذا المكان.. من بداية العرض وحتى نهايته نرى صابرًا يرتدي بنطلونًا وقميصًا عاديين ويحمل مسبحة، ونرى صالحًا يرتدي عراقي رصاصي اللون وسروالًا طويلًا، ومن خلال الحوار نعرف أن صالحًا هو المريض النفساني وأن صابرًا يعمل موظفًا في واحدة من المؤسسات الحكومية، وإنه المرافق الأساس لشقيقه المريض في كل رحلات علاجه التي استمرت لما يتجاوز الثلاثين عامًا.. العرض الذي هو عبارة عن سيرة شخصية للمريض النفساني صالح تشتبك في بعض جوانبها مع سيرة شقيقه صابر بحكم اشتراكهما في بعض الأحداث، يقع في دائرة الكوميديا السوداء كما أرى، فبرغم مأساوية ما يحكيه وبرغم نهايته المبكية إلا أنه لم يخل من الكوميديا هنا وهناك، وهو وبرغم ما حمله من قصص وحكايات وذكريات تعد كثيفة وكثيرة بالنظر إليها في سياق الزمن الواقعي للعرض “75” دقيقة تقريبًا” إلا أنه كان سريع الإيقاع، وقد يعود السبب هنا أولًا إلى بناء النص الذي ينهض كما أشرنا على سيرة شخصية تقوم بطبيعتها كأي سيرة على تعدد الأصوات وعلى تنوع الحكايات وعلى اشتباك وتداخل الزمان والمكان.. أما السبب الثاني فيعود إلى ما يمكن أن نطلق عليه “إستراتيجية المخرج” التي نهضت بشكل أساس كما أرى على (الممثل) والتقشف الشديد في عناصر العرض المسرحي الأخرى كالديكور والإضاءة والموسيقى والمؤثرات الصوتية، بل والتحرر حتى من المكان المسرحي التقليدي “الخشبة” ومن استثمار الكثير من الفرص التي يتيحها النص ولا تتناقض مع منطق العرض كتجسيد بعض الأماكن والأحداث المحكية كالذي حكاه صالح  عندما كان في المصحة مثلًا أو بعض الشخصيات التي قابلها صالح وحكى عنها كشخصية “التاج الرطل أو “بدرية الممرضة” أو “عبدالكريم”.. هذه الإستراتيجية أو هذا الخيار الذي اشتغل عليه المخرج، يصب تمامًا في الرسالة الباطنية.. الخفية.. العميقة للعرض التي هي إعلان صرخة المريض النفساني “المجنون” كشخص يمثل الآخر بالنسبة للأصحاء “العقلاء” بكل ما تعنيه كلمة الآخر هنا من دلالات كفقدانه للأهلية القانونية وخضوعه لسلطة ووصاية من يرون أنهم العقلاء.. هذه الصرخة التي تنفجر بالمكبوت والمقموع التي تعلي من شأن صوت الأنا وقوة الحكي بما يحملانه من رسائل فكرية وسياسية وتنويرية خاصة وأن المريض النفساني “المجنون” في هذا العرض وعلى غير ما جرت به العادة في الكثير من الأعمال الإبداعية خاصة المسرح يعبر أصالة عن نفسه وعن الفئة التي ينتمي إليها “فئة المرضى النفسانيين”، ولم يُستدع هنا بتلك الصيغة التي تجعله شاهدًا ينطق بما لا يستطيع “العقلاء” قوله في السياسة والأخلاق والتقاليد المجتمعية السالبة، أما السبب الثالث فيعود إلى التمثيل، وقبل الكشف عن الطريقة التي قدم بها الممثلان محمد كوبر ويحيى فضل الله  شخصيتيهما، أجد من الضروري أن أطرح افتراضًا يتصل بالنص/العرض من ناحية بنائية مفاده أن النص/العرض بالأساس يقوم على شخصية  “صالح”، مما يعني إمكانية تصنيفه ضمن ما يعرف “بالمونودراما” كنوع من أنواع المسرح، أما شخصية “صابر” وبالنظر لموقعها في العرض فتبدو وكأنها تقنية أو حيلة درامية لا أكثر تساعد على توالد الحكي وتنظيمه  وصولًا إلى نهاياته أو قريبًا منها. هذا الافتراض قد يجد بعض ما يدعمه في أن العبء الأكبر في التمثيل وقع على عاتق الممثل محمد كوبر كما شاهدنا، فهو أولًا وجد نفسه أمام شخصية مركبة تراوح بين العقل واللا عقل.. بين الصحو والهذيان.. بين الغضب والرجاء.. بين العنف والوداعة، هذا من جانب ومن جانب آخر شخصية ثرية بالحكي الموزع بين الأمكنة والناس، فصالح يعيد بناء الأمكنة ويعيد بناء حكايات الناس فهو يحكي عن مدرسته فى مراحله الدراسية الأولى “مدرسة الأقباط فى عطبرة:

صالح: يا صابر.. يا صابر.. يا صابر.. صحي وشي بشبه الفار؟عاوز أغيرو.. الطلبة في مدرسة الأقباط كانوا بضحكوا علي.. واحد قال لي وشك صغير زي وش الفار.. عشان كدا كل ما أعاين فى المراية بشوف نفسي فار.

ويحكي عن “البيت:”

صالح: تتذكر يا صابر مرايتنا الفي بيتنا في كوستي.. أمي سمتها مراية عثمان حسين.. عشان لمان جا عرس ناس قرشاب – عرس ولدهم محمد – جا عشان يغني ليهم.. هو ما خال العريس.. ما كان عندهم مرايا يحلق بيها.. جو شالو مرايتنا.. المراية دي قعدت معانا خمسين سنة.. أنا ما كنت مولود.. كسروها أولادك.. هم ما بعرفو قيمة الحاجات دي.. أمي قالت ديل همج.

ويتذكر المدن التي عاش فيها أو سافر إليها “عطبرة، دنقلا، كوستي، الخرطوم”.. يحكي عن حي “السكة حديد” وعن سوق “القيقر” في عطبرة.. يحكي عن “الديم” و “أبو حمامة”.. يحكي عن حي “الجميعاب” في أمبدة.. يحكي عن المصحات وعن غرف الشيوخ التي مر بها طلبًا للعلاج.

 

صالح: ….. مصحة لا.. عليك الله عليك الله (متوددًا).. العساكر بدقوني بالخرطوش وبدخلوني الزنزانة.. بقفلونى بالطبلة.

صالح: شيخ عثمان عاين لى بعيون فيها شر.. هو ضعيف ومعولق.. شايل سوط عنج بضرب بيهو المجانين الفي الحوش.. داير يضربني.. جرِّيت منو السوط.. قلت ليه ما تضربني ونهرتو.. طوالي قبل على “مكلية” وقال ليها دا جن دكاترة.

وفي الشخوص يحكي عن “مكلية”- أشهر مجانين ومجنونات مدينة عطبرة – وعن “التاج الرطل” وعن “علوية” موظفة الكبانية وعن “أم وليد” وعن “عبدالله أبو نازك”، وعن أستاذه القبطي “جورج”، وعن زملائه فى مدرسة الأقباط، وعن الرئيسين “جعفر نميري” و”عمر البشير”، وعن زميله في المصحة “عبدالكريم علي عبدالكريم” الذي وجدوه ميتًا، وعن والده، وعن صابر شقيقه، وعن أمه وعن أخته.

كل هذه الحكايات المتداخلة والمتسقة حينًا والمتنافرة أحيانًا أخرى عن الأمكنة والناس التي يأتي بعضها في لحظة وعي وصحو الشخصية، ويأتي بعضها الآخر في لحظة هذيان الشخصية لا تعبر عن مزاج واحد، فبعضها يأتي مُجسِّدًا لحالة من حالات الغضب والعنف، وبعضها يأتي في حالة من حالات الهدوء والوداعة.. كل هذه الحكايات التي مثلت موضوع العرض واستبطنت حكايته جسّدها الممثل محمد كوبر بمهارة عالية، تمثلت بلاغتها في التلقائية ونفي المبالغة التي عنت أولًا فهمه لطبيعة العلاقة بينه وبين الشخصية التي يُجسِّدُها الممثل يحيى “شخصية صابر”، وحدود هذه العلاقة إذ أن أقوال وأفعال هذه الشخصية مرتهنة تمامًا لأقوال وأفعال شخصية “صالح”، وعنت ثانيًا عدم وقوعه في “الكليشهات” المتداولة في تنميط شخصية المريض النفساني (المجنون)، وعنت ثالثًا انتقاله السلس ودونما إغراق في التفاصيل من الشخصية التي يؤديها إلى أي شخصية أخرى من الشخصيات الكثيرة “نسائية ورجالية” التي حفل بها العرض كشخصية بدرية والتاج الرطل وغيرهما، وعنت رابعًا مقدرته في استنهاض روحه وهو فعل لا يتأتى  للممثل إلا إذا توافر على درجة عالية من الصدق الفني الذي بدوره لا يُحاز إلا بمعرفة الممثل للشخصية التي يمثلها ولحدودها، فباستنهاض هذه الروح يشتعل الجسد فتَدُب الحياة في فضاء الخشبة بكل ما تحويه أو ما لا تحويه من أضواء وأصوات وأثاث وشخوص، ولعل هذا ما جسده الممثل محمد كوبر أو كاد وهو يملأ فضاء الخشبة حيوية وجمالًا.. هنا تجب الإشارة إلى أن من بعض ما ساعد الممثل كوبر في اشتعاله واشعاله فضاء الخشبة، إضافة إلى بنائية النص وإستراتيجية المخرج، الطريقة التي أدى بها الممثل يحيى شخصية صابر، فقد جسد يحيى هذه الشخصية باقتصاديات محكمة في (التمثيل) تمثلت في التقشف في الحركة مما أتاح للممثل كوبر فرصة أن يُشغل الحيز الأكبر في فضاء الخشبة، وتمثلت كذلك فى غلبة الهدوء والبطء على أدائه نوعًا مما مكن الممثل كوبر من استخدام صوته للحد الأقصى وتلوينه حتى ولو بالغناء في بعض الأحيان، وبالطبع كل هذا لم يكن بعيدًا عن موقع شخصية صابر في النص/العرض الذي أشرت له في ثنايا هذه المقالة.

صابر: (يبكي بألم وحرقة)

معليش معليش يا صالح معليش.. أنا السبب.. نحنا السبب.. إنت ما مفروض تصل المرحلة دى.. ما مفروض.. ما مفروض.

صابر: (بغضب)

إنت يا زول ما عايز تنكتم.. أنا بكتمك للأبد.. خلاص أنا زهجت منك ومن حياتي ومن القرف العايش فيه.. كلو ما عندو معنى.

كيف كانت نهاية العرض؟

في المشهد الأخير تزداد وتيرة الحركة والتدافع بين الشخصيتين وتتداخل أقوالهما وهما يرددان نفس الجمل بما يشبه الصوت والصدى أو الأصل والظل في إشارة إلى أنهما عاشا نفس الحكاية، وأن ما حكاه صالح كان يمكن أن يحكيه صابر لذلك كان صابرًا هو من أنهى هذه الحكاية.. حكاية أخيه.. حكايته هو وذلك بقتل أخيه خنقًا، وها هو صالح يعيد ترديد تلك الجملة وهو يحتضر:

صالح: الطيور ماتت.. الأربعة ماتت.

ونفس هذه الجملة يرددها صابر بعد أن قتل أخيه.

صابر: الطيور ماتت.. الأربعة ماتت.. الليلة الليلة يا سمرا.. يا سمارا الليلة يا سمرا

هذه الجملة تحديدًا التي بدأ بها العرض وانتهى بها مثلت الإشارة الأولى لوجود شخصية صالح في منطقة “اللاعقل”.. في منطقة “الاضطراب النفسي”، وهي نفسها في نهاية العرض مثلت  الإشارة الأولى لانتقال شخصية صابر غلى منطقة “اللاعقل”.. منطقة “الاضطراب النفسى”.

ويبقى السؤال في هذا العرض المُعّقد والمأساوي بامتياز من الذي قال حكاية العرض؟ صالح المريض النفساني المقتول؟؟ أم صابر شقيق صالح ومرافقه في كل رحلات علاجه والقاتل؟؟ وما هي دلالة قتل صالح؟ هل يمكن أن يكون من بعض دلالاتها إسكات صوت الضمير اللوّام الذي كان يقظًا عند صابر؟ ربما.

وتأتي خاتمتي لهذه المقالة، أن هذا العرض يمثل صرخة مدوية في لفت النظر لهذه الفئة المهمشة من الناس “المرضى النفسانيين”، ويمثل صرخة احتجاج كبيرة إن لم نقل إدانة موجهة للأسرة السودانية ونظرتها وطريقة تعاملها مع المريض النفساني، وللمصحات النفسية وللاختصاصيين النفسانيين، ولبعض الشيوخ، ولمنظمات المجتمع المدني خاصة العاملة في مجال حقوق الإنسان.

لا يفوتني أن أتقدم بالشكر للصديقة الاختصاصية النفسية ندى حليم، فقد أفدت منها كثيرًا في كتابة هذه المقالة.

                                                                                        

*/ المخرج يحى فضل الله العوض:

خريج المعهد العالي للموسيقى والمسرح “كلية الموسيقى والدراما-جامعة السودان حاليًا”.. تخصص تمثيل وإخراج 1984

شاعر وقاص ومؤلف مسرحي.

مقيم بمدينة هاملتون في كندا.

أخرج للمسرح مسرحيات: “الأستاذ” ليوجين يونسكو/التحدي لخطاب حسن أحمد/ “الرجل الذي صمت” لمحمد محىي الدين/ سهرة مسرحية لمصطفى أحمد الخليفة وغيرها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى