بورتسودان تحت قصف المسيرات
محمد أحمد
في تطور نوعي وغير مسبوق، استهدفت سلسلة هجمات بطائرات مسيّرة مدينة بورتسودان الإستراتيجية على البحر الأحمر، حيث تتمركز القيادة العليا للجيش السوداني ومؤسسات الدولة المدنية. الهجمات التي بدأت في 4 مايو 2025 طالت قاعدة عثمان دقنة الجوية، مستودعات الوقود، الميناء الرئيسي، ومطار المدينة الدولي، ما أدى إلى حرائق واسعة، انقطاع الكهرباء، وتعليق الرحلات الإنسانية.
هذا التصعيد لا يُقرأ فقط عسكريًا، بل هو أيضًا رسالة سياسية وميدانية معقدة تعيد ترتيب مشهد الحرب السودانية، وتكشف عن انخراط قوى إقليمية في إدارة الصراع بشكل مباشر أو عبر وكلاء محليين.
رد فعل السلطات: خطاب هش أمام كارثة متعددة المستويات
رغم ضخامة الحدث وتعدد تبعاته، اتسم رد فعل سلطات بورتسودان والقيادة السياسية والعسكرية المركزية بغياب خطاب واضح وجريء يخاطب الشعب السوداني بحجم الكارثة. فالقصف بالمسيّرات لم يقتصر على المدينة الساحلية وحدها، بل شمل مدنًا أخرى مثل سواكن، كوستي، الأبيض، كسلا، والفاشر، ما يكشف عن اتساع رقعة الاستهداف وعن اختراقات أمنية كارثية في عمق المناطق التي كانت تُعتبر “مؤمنة” فضلًا عن تلك التي ظلت مشتعلة لفترة طويلة.
ومع ذلك، لم تصدر السلطات بيانًا مفصّلًا يوضح حجم الخسائر الفعلية في الأرواح والمعدات والمنشآت، ولم تشرح كيف ستعالج الأثر المباشر على الإمدادات الحيوية التي يعتمد عليها ملايين المدنيين. إذ تؤثر الضربات بشكل مباشر على حركة الوقود وغاز الطبخ، وهددت المخزون الإستراتيجي من المواد التموينية، وأوقفت حركة الإغاثة الإنسانية التي كانت تصل عبر مطار وميناء بورتسودان.
اقتصاديًا، من الراجح أن تحدث الهجمات اضطرابًا بالغًا في حركة التجارة الخارجية، حيث تتضرر سلاسل الإمداد المرتبطة بالميناء البحري الرئيسي، ما يؤثر على توفر الأدوية ومدخلات الإنتاج الزراعي والصناعي في البلاد. ومع تراجع الثقة في قدرة الجيش على تأمين المدينة، قد تتراجع حركة السفن التجارية، وتدخل البلاد مرحلة أشد من الانهيار الاقتصادي، وسط غياب خطة طوارئ اقتصادية أو إجراءات لتثبيت الوضع.
هذا الغياب شبه الكامل للشفافية والتخطيط يعكس أزمة أعمق داخل المنظومة الحاكمة، وحتمًا سوف يؤثر على ما تبقى من شرعية الجيش في نظر القاعدة الشعبية التي كانت تُعوّل على استقرار بورتسودان كمركز للنجاة من الجحيم الممتد في بقية البلاد.
تمتين أم تصدع في تحالفات الجيش؟
في محاولته استثمار الحدث، سارع الجيش إلى اتهام الإمارات بدعم قوات الدعم السريع وقطع العلاقات الدبلوماسية معها. هذا التصعيد الدبلوماسي يُظهر محاولة من الجيش لتأطير الصراع كحرب على “تدخل خارجي”، ما قد يعزز مؤقتًا تماسك تحالفاته مع بعض القوى المدنية، وخاصة تلك التي لا ترتبط بمصالح مباشرة مع الإمارات.
لكن من جهة أخرى، فإن هذه الخطوة قد تؤدي إلى تصدع داخل المعسكر المؤيد للجيش، لا سيما بين القوى المرتبطة اقتصاديًا أو سياسيًا بالخليج، أو تلك التي كانت تفضّل الحياد في النزاع الإقليمي المتداخل مع الحرب.
لعبة الإنكار المحسوب
نفت الإمارات بشكل قاطع الاتهامات السودانية، في موقف لا يخلو من دلالة. فمن جهة، تحاول أبو ظبي الحفاظ على هامش مناورة دبلوماسي، خاصة مع تنامي الضغوط الغربية ومواقف السعودية ومصر المتحفظة. ومن جهة أخرى، يعكس النفي استمرار الإمارات في إستراتيجية “الإنكار المعقول”، التي تسمح لها بدعم حلفائها دون تحمّل تبعات مباشرة.
وفي السياق ذاته، لم تعلن قوات الدعم السريع رسميًا مسؤوليتها عن الهجوم، رغم وجود مؤشرات قوية على تورطها. هذا التكتيك يعكس تطورًا في أدائها العسكري، وحرصها على تجنب الإدانة الدولية، كما يمنحها ميزة “الضرب بلا توقيع”، ما يربك الجيش ويضعه في موقع رد الفعل المستمر.
أما زيارة وزير الدفاع السوداني إلى كوريا الشمالية، فهي دلالة واضحة على بحث الجيش عن بدائل تسليحية خارج المعسكر العربي والغربي، ما يؤشر على انزياح تدريجي نحو تحالفات مع أنظمة منبوذة دوليًا. هذا الخيار قد يُكسب الجيش دعمًا عسكريًا، لكنه يزيد من عزلته السياسية ويعرض السودان لمزيد من العقوبات والعزلة الدولية.
تحوّل استراتيجي لا ينذر بنهاية قريبة
إن ما يحدث في بورتسودان ليس مجرد هجوم عسكري، بل هو نقطة تحوّل في الحرب، تدل على دخول الصراع مرحلة جديدة يتشابك فيها المحلي بالإقليمي والدولي. استخدام المسيّرات، التصعيد الدبلوماسي، وتحرك السفن الإريترية والزيارات الخارجية، جميعها تشير إلى أن الحرب لم تعد معركة بين جيش ومليشيا، بل ساحة لصراع إقليمي معقد قد يطيل أمد الحرب ويقضي نهائيًا على ما تبقى من مؤسسات الدولة في ظل غياب أية حلول تفاوضية تلوح في الأفق.