العدالة ليست سلعة: في رفض قرار فرض رسوم على خدمات النيابة العامة في السودان
محمد عمر شمينا
في خطوة صادمة لأسس العدالة وسيادة القانون، أصدرت وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي بتاريخ 29 مايو 2025 قرارًا يقضي بفرض رسوم مالية على أكثر من 52 خدمة تقدمها النيابة العامة السودانية. وقد شملت هذه الرسوم خدمات عدلية أساسية تمس صميم حقوق المتقاضين والمواطنين، مثل طلبات الضمان، المخاطبات، فك الحجز، تسليم المعروضات، طلبات المحامين، وغيرها من الإجراءات اليومية التي تُمارس في إطار التحقيق والعدالة الجنائية.
يمثّل هذا القرار، الذي قوبل برفض قاطع من لجنة تسيير نقابة المحامين السودانيين، تجاوزًا خطيرًا للمبادئ الدستورية والحقوقية التي تقوم عليها العدالة، ويفتح الباب واسعًا لتحويل العدالة إلى امتياز لا يحصل عليه إلا من يستطيع الدفع، بدلًا من أن تظل حقًا مكفولًا للجميع دون تمييز.
إن جوهر المشكلة لا يكمن فقط في فرض رسوم مالية، بل في المنطق الكامن وراء القرار، حيث يُعاد تعريف خدمات النيابة العامة من كونها أدوات لحماية الحقوق إلى (خدمات مدفوعة) خاضعة للتسعير. هذه المقاربة تمثل انزلاقًا خطيرًا نحو خصخصة العدالة، وتحويلها إلى سلعة، بدلًا من كونها حقًا أساسيًا لكل فرد، لا يُحرَم منه بسبب فقره أو عجزه.
تاريخيًا، تأسس مبدأ العدالة المجانية على قاعدة واضحة أن الوصول إلى القضاء والعدالة الجنائية يجب ألا يكون مشروطًا بالقدرة المالية. ولهذا السبب، نصت معظم الدساتير، بما فيها الوثيقة الدستورية السودانية لسنة 2019، على ضمان هذا الحق دون مقابل. وتنص المادة (48) من الوثيقة الدستورية على أن (لكل شخص الحق في التقاضي أمام المحاكم وفقًا للقانون)، وهو نص يُلزم الدولة بتمكين الأفراد من اللجوء إلى العدالة دون عوائق مالية أو إدارية.
حتى حين فرض القضاء السوداني تاريخيًا إبان الحكم الاستعماري رسومًا رمزية على دعاوى مدنية، فقد ارتبط الأمر بفلسفة محددة تهدف إلى إظهار الجدية في التقاضي ومنع إساءة استخدام النظام القضائي عبر القضايا الكيدية أو العبثية، دون أن تشمل تلك الرسوم الحقوق الجنائية الأساسية أو تحد من حق الفقراء في الوصول للعدالة. أما القرار الأخير، فقد جاء دون فلسفة قانونية واضحة، ودون سند تشريعي، مستهدفًا حقوقًا لا ينبغي المساس بها.
من منظور دستوري وقانوني، يُعد القرار انتهاكًا مباشرًا للحق في التقاضي المكفول في الوثيقة الدستورية، ومخالفًا للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 14)، الذي صادق عليه السودان. كما أن توجيه وزارة المالية للنيابة بشأن كيفية التصرف في الأموال المحصلة، ومنع الإعفاء منها، يُعتبر تدخلًا تنفيذيًا مباشرًا في مؤسسة يفترض أن تكون مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.
النيابة العامة، كجزء من منظومة العدالة، يجب أن تتمتع باستقلال كامل في قراراتها المالية والإدارية، خصوصًا حين يتعلق الأمر بحقوق الأفراد. خضوعها لتوجيهات مالية من جهة تنفيذية يمثل تقويضًا لهذا الاستقلال، وتفريغًا لدورها من مضمونه.
إن فرض رسوم مالية على خدمات النيابة العامة لن يؤدي فقط إلى إبطاء العدالة، بل إلى إقصاء فعلي للفئات الأكثر هشاشة: الفقراء، النازحون، وضحايا الحرب والانتهاكات. في بلد يعاني من النزاعات والانهيار المؤسسي، تصبح النيابة العامة الملاذ الأخير للضحايا. وفرض رسوم على هذه الفئات يعني ببساطة إغلاق هذا الملاذ في وجوههم.
العدالة في ظروف النزاع لا تحتمل الحواجز، ولا يجوز أن تتحول الأوضاع الاستثنائية إلى فرصة لتجنيب المجرمين المحاسبة. حين يُجبر الضحية على دفع رسوم مالية لتقديم شكوى أو طلب مستند، فإننا أمام سياسة تُكرّس الإفلات من العقاب وتعيد إنتاج الظلم.
من المهم التأكيد أن النيابة العامة ليست مؤسسة خدمية تُقدّم خدماتها وفق مبدأ (ادفع ثم خذ)، بل هي جزء من منظومة العدالة الجنائية، ودورها الأساسي هو حماية الحقوق العامة ومساءلة من ينتهك القانون، لا أن تتحول إلى جهة جباية تُسعّر إجراءات الحماية القانونية. هذا القرار يخلق تشوهًا خطيرًا في وظيفة النيابة، ويمثل تراجعًا عن أي محاولات لبناء مؤسسات عدلية مستقلة تحظى بثقة المجتمع، خصوصًا في ظل بيئة مشبعة من حيث الأصل بانعدام الثقة في مؤسسات الدولة.
إن مسؤولية التصدي لهذا القرار لا تقع على نقابة المحامين وحدها، بل على كافة القوى الحية في المجتمع السوداني. وعلى رأس الدولة، رئيس الوزراء المعين حديثاً د.كامل الطيب، أن يجعل من هذا الملف أولوية في جدول عمله، باعتباره مؤشرًا حاسمًا على مدى التزام الدولة بإقامة العدل وصيانة الحقوق.
وانطلاقًا من هذه المخاطر وتخوفنا من انزلاقات لأ تحمد عقباها، تبرز جملة من التوصيات التى أرى أنها ضرورية على الأقل من وجهة نظري: أولًا، ضرورة إلغاء القرار فورًا باعتباره مخالفًا للدستور ومبدأ العدالة المجانية. ثانيًا، إصدار بيان رسمي من رئيس الوزراء يؤكد التزام الدولة باستقلال النيابة العامة ومجانية العدالة الجنائية. ثالثًا، رفع طعن قانوني ضد القرار أمام المحاكم المختصة. رابعًا، منع أي توجيه مالي من وزارة المالية أو أي جهة تنفيذية للنيابة العامة مستقبلاً. خامسًا، إطلاق حملة توعوية وإعلامية لتوضيح مخاطر القرار على المواطنين وربطه بحقهم في الحماية القانونية. وأخيرًا، فتح نقاش واسع حول تمويل مؤسسات العدالة من قبل الدولة دون الإضرار بحقوق المواطنين أو المساس بمبدأ المجانية في التقاضي.
إن العدالة التي لا تُتاح للجميع، ليست عدالة. ولا يجوز تحويل الحق في الإنصاف القانوني إلى سلعة تُشترى. لا يمكن لدولة تحترم نفسها أن تطلب من ضحايا الجريمة أن يدفعوا رسومًا لحماية أنفسهم. هذا القرار لا يهدد فقط مبدأ العدالة المجانية، بل يضرب صميم ما تبقى من ثقة في مؤسسات العدالة السودانية. إلغاء القرار ليس مجرد مطلب نقابي، بل واجب وطني، أخلاقي، ودستوري.