“عين على الصين” أو فن إبداع الحياة

 

السر السيد

“في قريةِ الصين المُتحَرِّرة،

أبصرتُ كل شيء،

ولم يَقصُّوا عليَّ شيئاً.

وكان الأطفالُ من حولي،

لا يُفسحون لي المجال كي أسير،

وأكلت أرزهم،

وأكلت ثمارهم،

واحتسيت خمرهم،

خمر الأرز الشاحـب،

وعرضوا لعينيَّ كل شيء،

بذات الأَنِفَة التي عَرِفتُها في رومانيا،

وعرفتها في المجر؛

إنها الأَنِفَة الجديدة،

أَنِفَةُ الفلاح

الذي يُبصِرُ الطحين لأول مرة،

على أضواءِ عالم الغد”.

رياح آسيا – بابلو نيرودا

(1)

ما حَدَث في الصين ويحدث عبر تاريخها الطويل والتليد، خاصةً بعد استلام الحزب الشيوعي للسلطة هناك، أي بعد الثورة الصينية؛ لا يمكن مقاربته والنظر إليه إلا من زاوية الإبداع، الذي يعني فيما يعني إعادة بناء الحياة بمختلف جوانبها وفق رؤية مُفَارقة لليوميّ وللعادي، أي ما يشبه كتابة قصيدة أو رواية أو رسم لوحة. فما حدث في الصين أو الذي يحدث لا يمكن النظر إليه إلا من خلال (الخيال) كفعلٍ إنسانيٍّ يتخطَّى حدود الواقع، وفي نفس الوقت ينهض عليه؛ فالتجربة الصينية تُشير وبلا مواربة إلى تفجير خلاَّق لطاقات الإنسان ولطاقات الطبيعة ولطاقات التاريخ، لذلك كانت الصين وعلى الدوام في المخيلة الإنسانية تبدو كظاهرة تحوم على تخوم الإعجاز وترى أبعد مما يمكن أن تُوفِّرَه المعطيات المتاحة، فما حدث في الصين في ردم الهوة بين الريف والمدينة -على سبيل المثال- يجسِّد طاقةً عاليةً للحب… ورغبة أكيدة في إعادة بناء برؤية إبداعية خلاَّقة، لذلك يمكن القول إن الزعيم ماو تسي تونغ كان شاعرًا كبيرًا، نظر إلى وطنه وشعبه كورقةٍ ملونة كتب فيها هو ورفاقه السابقين واللاحقين قصيدتهم التي صارت مع مرور الأيام الصين التي نعرفها الآن.

 

الذي يزور الصين يلمس هذه الشاعرية في كل شيء؛ في الناس وفي العمارة، في الطعام وفي الفنون، في الثقافة والتقانة، في كل شيء تستطيع أن تلمس الوداعة والجمال وقوة الإنسان التي تَدَثَّرت بالحب والخير والجمال.

 (2)

عين على الصين:

هو عنوان الكتاب الذي كتبه الصحفي النابه الأستاذ محمد عبد العزيز، وصدر عن المصورات في العام 2018.. الكتاب الذي يغطي اللون الأحمر غلافه، ويقع في حوالي الـ177 صفحة من القطع المتوسط، والذي يحتوي على 43 مقالة، يمكن تصنيفه ضمن (أدب الرحلات)، وهو أدب عَرِفَتهُ كل الثقافات ويجد اعترافاً عند دارسي الأدب والتاريخ والأنثربولوجيا وعلوم أخرى يضيق المكان عن ذكرها.. فأدب الرحلات الذي ينهض أساساً على انطباعات كاتبه أو كاتبته عن المكان الذي زاره أو زارته، يتخذ من السرد والحكي وسيلة له، وهنا تكمن أدبيَّته لأنه يحكي عن مشاهدات لأماكن وأحداث وبشر، وينهض على الكثير من المعلومات الحقيقية مما يجعله، وفي جوانب كثيرة، يشكِّل وثيقةً علميةً ومرجعاً للكثير من الدارسين لحياة وثقافة المكان الذي تمت فيه الرحلة.

“عين على الصين” الكتاب الذي يدخل من أوسع الأبواب في ذاكرة أدب الرحلات في السودان، وهو أدب لم تتوقف عنده كثيراً أقلام النقاد والدارسين. من بعض ما يلفتنا إليه هذا الكتاب، إضافة إلى المنجز من أدب الرحلات في السودان، وعلى سبيل المثال لا الحصر كالذي كتبه الطيب صالح أو أحمد حسن مطر في كتابه “سندباد من السودان”، أو يوسف محمد بشارة في كتابه “كوبا الجزيرة التي أحببت”؛ يلفتنا كتاب “عين على الصين” وبشكل أخص إلى كتاب المفكرة السودانية الفقيدة العزيزة خديجة صفوت الموسوم بـ(رحلة فتاة سودانية إلى الصين 1966)، الذي صدرت طبعته الثانية في العام 2006 عن دار السويدي للنشر والتوزيع في أبو ظبي.. يلفتنا بشكلٍ أخص لأن كتابها يغطِّي مرحلة مهمة من مراحل مسيرة الصين، ولأنه يلتقي مع كتاب عين على الصين في هذا الشغف الموضوعي بالتجربة الصينية. وبرغم تباعد السنوات، ها هو أدب الرحلات عندنا يحتفي مرة أخرى بالصين.

(3)

في “عين على الصين”، الذي هو عبارة عن حكاية تتوسل الأدب ولا تُهمل الحقائق الموضوعية، نَقِف على تجربة الصين الحديثة، وهي تجربة تُجسِّد وبجدارة فن إبداع الحياة؛ فهذه المقالات المتنوعة، التي تمزج بين ما يُمَثِّل تجربةً خاصةً لبعض الصينيين وما يمثل تجربة عامة يجسدها حضور الحزب الشيوعي الصيني، وما قام به من أدوار خلال مسيرته الطويلة. عبر هذه المقالات المتنوعة التي تكشف عن معرفة دقيقة لا تخلو من محبّةٍ تَوَفَّر عليها كاتبنا بتاريخ الصين وحاضرها وتحولاتها في مختلف المجالات، حتى أنه يمكننا أن نقول إن الصحفي محمد عبد العزيز بسفْره هذا قد حَرَّض على أن يكون لنا صحافيون متخصصون، كيف لا ونحن نسوح في هذا الكتاب تجدنا نمضي عميقاً في ذاكرة الصين مع الاستعمار وذاكرتها مع الثورة الصينية، حكاياتها وتضحياتها وأبطالها، نقف على التنمية بمفهومها الأشمل، نقف على التحولات الاقتصادية والاجتماعية، نقف على تجربتها في القضاء على الفقر، نقف على البطولة الصينية، نقف على أدوار الصين على مستوى العالم وفي إفريقيا تحديداً، نقف على تلك الشاعرية التي أَشِرتُ لها آنفاً لتبدو هذه (العين) ليست على الصين فقط وإنما على العالم من خلال موقع الصين فيه، الذي يُمثِّل بقعةً من الجمال في عالمٍ يسعى لتكريس القبح عبر المشروع الرأسمالي المتوحش.

 إن شاعرية التجربة الصينية، كما تتبدَّى في هذا الكتاب، هي في مقدرتها على تثوير إرثها الذي تَمَثَّل في الأخير -كما يقول الصينيون- في بناء “مشروع اشتراكي بخصائص صينية”، دونما إهمال لمنجزات العصر في المجالات كافة.

إن “عين على الصين” كتاب يمنحك المتعة والمعرفة، ويجعلك تُطلّ على كل العالم من نافذة تمنح الحلم قُوَّته، والأمل جماله، والعمل شاعريته، والخيال واقعيته.

إنه كتاب يمنح من زار الصين متعةً إضافيةً ومعرفةً أخرى، وقد زرت الصين مرتين، فيا لسعادتي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى