في بيت الحرب… لا تلعبوا بالنار

 

“من أراد إحراق المراكب ظنًّا أنه قد عبر، يخدع نفسه ويضحك على الشعب”…

هكذا قال مني أركو مناوي، المشرف على القوات المشتركة وحاكم إقليم دارفور، والفاعل في ما تبقى من مشهد الحكم داخل السودان، في تغريدة لا يمكن قراءتها بمعزل عن ما يجري داخل تحالف بورتسودان، ذاك الكيان الحربي الثقيل، الذي بات يعاني من شروخ داخلية تتسع كل يوم، مدفوعةً بأجندات قوى تبحث عن تمكينها الخاص، ولو على أنقاض ما تبقى من الدولة.

تغريدة مناوي، رغم ما تكتنزه من مرارة وتلميحات، وضعت إصبعها على الجرح: هناك من يتقن تسريب الاجتماعات، وتوجيه الأقلام، وتحريك الألسنة المسمومة، بهدف تشويه الحلفاء، وإضعاف الجبهة الداخلية للتحالف. لكن الهدف الحقيقي ليس الخلاف حول سياسات أو خيارات وطنية، بل السعي لعزل مكوّنات بعينها، تمهيدًا لإعادة تشكيل السلطة على مقاس أقلية تعتقد أنها “الأحق” و”الأذكى”، بينما هي نفسها كانت سبب الخراب.

لنكن صريحين: تحالف بورتسودان ليس تحالفًا وطنيًا جامعًا، بل هو تحالف حرب، تشكّل على وقع البنادق، وراكم في مساره مظالم ومآسي كثيرة. ولم يقدم حتى الآن مشروعًا واضحًا للسلام أو الدولة، وانهمك في خطاب التخوين والاقتلاع، كما أخفق في لجم الفوضى داخل مناطقه. لكن، مع ذلك، فإن تفككه الآن –بهذه الطريقة القذرة التي ألمح إليها مناوي– سيعني نهاية ما تبقى من مركز، وولادة أطراف متنازعة بلا أي سقف أو توازن.

تحالف بورتسودان، بكل عيوبه، وفي مقدمتها أنه تحالف حربي دموي لكنه يشكل “غطاء واقيًا” هشًا أمام الانهيار التام، وتفكيكه في هذه اللحظة لا يعني إلا شيئًا واحدًا: الفوضى. وهذه الفوضى لن تأتي برياح التغيير أو إصلاح الخراب، بل ستزيده اتساعًا. إذ لا يوجد بديل جاهز، ولا مشروع جامع، ولا مركز حكم بديل، ولا مؤسسة يمكن أن تضبط انفراط السلاح والمصالح.

ما لا يجب التغافل عنه هو أن الحركة الإسلامية، التي تتغلغل في هياكل هذا التحالف، تبدو كمن يحفر من الداخل، في محاولة للعودة إلى السلطة عبر بوابة الإقصاء والإرباك. إن من يعيد إنتاج سيناريوهات التآمر، ويستدعي سلوك الأجهزة القديمة من تسريبات وتشويهات وتشكيك في النوايا، لا يبتغي وحدة الصف، بل يريد السلطة بأي ثمن.

هذه العقلية هي ذاتها التي أوصلت السودان إلى الحرب، ثم وقفت على الأطلال تبرر الخراب. والآن، تحاول أن تستثمر في الهشاشة لتعيد التمكين لأنصارها، غير مدركة أن المرحلة قد تغيرت، وأن المجتمع السوداني، بكل انكساراته، لم يعد قابلًا للخداع بنفس الأدوات القديمة.

ما خطه مناوي ليس بكاءً على تحالفٍ وطنيّ، بل هو إنذار من عبث داخل هذا التحالف قد يفتح أبوابًا جديدة للدم، ويبعث المزيد من  شياطين الحرب. وإن كان بعض قادة التحالف ما زالوا يعتقدون أنهم في مأمن، فعليهم أن يعيدوا قراءة التاريخ القريب. لأن من يقصي اليوم سيُقصى غدًا، ومن يحرق السفينة سيغرق معها، مهما ظن أنه عبر إلى الضفة الأخرى.

على الجميع –قادة التحالف، والعسكريين، والمكوّنات السياسية– أن يدركوا أن السودان لا يحتمل تجربة تفكيك جديدة. أما الإسلاميون تحديدًا، فليعلموا أن لا عودة من بوابة الحرق، ولا مغفرة لمن يريد تكرار الكارثة. إن البلد لم يعد يحتمل مزيدًا من المغامرات، ومن يظن أنه يحكم الخراب، سيجد نفسه في قلبه.

ما يجري داخل تحالف بورتسودان اليوم هو اختبار جديد لقدرة السودانيين على تجاوز الذات، والخروج من دائرة التخريب المقصود. إن لم يُكبح هذا الجنون، وإن تُركت أدوات التشويه والتصفية تنخر من الداخل، فلن يكون هناك تحالف، ولا جيش، ولا حتى أرض يمكن التفاوض عليها.

لا تلعبوا بالنار. فالبلد كلّه صار هشيمًا تذروه الرياح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى