صورة جماعية لمصيدة التسول

عدد المتسولين بالعاصمة الإدارية قبل الحرب كان
220 متسولاً منهم 120 طفلاً دون سن السادسة طبقاً لأرقام التنمية الاجتماعية

نسبة الفقر في البلاد العام الماضي وصلت إلى65% طبقاً  للتنفيذي الأول التنمية الاجتماعية

بورتسودان- محمد قنات

كان على “حليمة” وهو اسم مستعار لدواعٍ إنسانية، أن تدفع نفسها للشارع بمدينة بورتسودان شرقي السودان من أجل “التسول” لتساعد أسرتها على مواجهة الحياة الصعبة بعد خروجها من قريتها الآمنة في إحدى الولايات التي مزقتها الحرب.
ومن نافلة القول إن الحرب السودانية أنتجت جملة من المآسي المجتمعية، من من شاكلة النزوح مثلما فاقمت من معدلات الفقر وتفشي ظاهرة التسول، فعلى وقع التهجير القسري للقرى والبلدات الآمنة، اضطرت عائلات إلى السفر إلى مدن وعواصم المجهول دون مأوى أو مأكل أو مشرب.
وفي المدينة الساحلية على البحر الأحمر، بات مشهد المتسولين منتشراً بكثافة في الشوارع والممرات ومواقف المواصلات.
تقول حليمة وهي أم لأربعة أطفال، لـ”أفق جديد”، إنها لجأت إلى التسول في مدينة بورتسودان، عندما توفى زوجها، ولم تجد من أسرتها من يتحمل عبء معيشة أبنائها الصغار، فاضطرت إلى النزول إلى الطرقات تصيداً لإعانات الخيرين.
وتشير محدثتنا إلى أن العائد ضعيف جداً، كون بورتسودان باتت مزدحمة بالمحتاجين القادمين من مناطق الحرب، و”ما نجنيه بالكاد يسد الرمق”. وتابعت، “السلع هي الأخرى أصبحت غالية”.
وحول أكبر المبالغ التي تحصلت عليها تقول حليمة، إنها تلقت إعانة من أحد الخيرين ذات مرة بلغت “مائة ألف جنيه”. وتروي بشيء من السرور: “مددت إليه يدي وأخرج من جيبه (رُبطة قروش)، وعندما حسبتها بين يدي ذهولي وجدتها مائة الف جنيه”. واسترسلت: “مباشرة ومن فوري ذهبت إلى السوق، واشتريت مستلزمات أبنائي من أكل وغيره، ولساني يلهج صالح الدعاء لذلك الرجل”.

وأبدت حليمة ضجرها من ازدياد عدد المتسولين في بورتسودان قائلة: “والله ضايقونا في الحاجة القليلة الكانت بتجينا دي”.
وفي يونيو/ حزيران 2024، قال وزير التنمية الاجتماعية في السودان، أحمد بخيت، أن هناك أسر سودانية ميسورة تضررت نتيجة للأوضاع التي تشهدها بلاده، مما أدى إلى زيادة نسبة الفقر التي وصلت مؤخرًا إلى 65%.
وأوضح الوزير السوداني في لقاء له مع وزيرة التضامن الاجتماعي نيفين القباج، أنّ هناك أسرًا سودانية ميسورة تضررت نتيجة للأوضاع التي تشهدها بلاده، مما أدى إلى زيادة نسبة الفقر، مؤكداً أنهم “يسعون للاستفادة من التجربة المصرية في مجال الحماية الاجتماعية وسبل مكافحة الفقر بآليات متنوعة تصب في مجملها في تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي، مع أهمية تكثيف جهود التمكين الاقتصادي وتنشيط سوق العمل”.
دوام الحال من المحال
بالنسبة لـ(أم مصطفى)، وهو اسم مستعار لدواعٍ إنسانية، فأحوالها كانت ميسورة، كما تصفها، حتى في ظل الحرب، حيث كانت تسكن مع زوجها وأطفالها في إحدى قرى الجزيرة وسط السودان. تقول (أم مصطفى) لـ”أفق جديد”، “كنت شاهدة على أحداث قريتي والمجازر التي نفذتها قوات الدعم السريع هناك، وراح ضحيتها العشرات من بينهم زوجي الذي مات مقتولًا أمام أطفاله”.


وتابعت والدمع يغالب روايتها: “هذا يوم لا يمكن نسيانه.. تسلل الخوف والفزع لأطفالي، وفي اليوم التالي خرجت مع أبنائي ضمن مجموعة كبيرة من النازحين، وبطبيعة الحال تفرقت بنا السبل، فسلكت طريقي إلى بورتسودان لأجد نفسي مجابهة بمتطلبات يومية من أكل وشراب وسكن، فاضطررت أن أمد يدي إلى أصحاب الخير في الطرقات من أجل أطفالي ووالدتي المُسنة”.
وتسترسل (أم صطفى) بالقول: “أنا الآن أعيش داخل مدرسة مخصصة لإيواء النازحين، أخرج منها في الصباح الباكر أجوب الطرقات والأسواق، وأعود ليلًا أحمل معي الطعام، وقليل من النقود”.

وفي نوفمبر الماضي، أقرت مدير إدارة المشردين بوزارة الرعاية الاجتماعية ولاية البحر الأحمر، مها محمد الهاشمى، بأن الولاية تشهد انفجارًا في عدد المتسولين بصورة لم تشهدها من قبل.
وبينما لا توجد إحصائية رسمية بأعداد المتسولين حاليًا، قالت الهاشمي في تصريحات إعلامية، إن “عدد المتسولين قبل الحرب كان 220 متسول بمدينة بورتسودان منهم 120 طفل دون سن السادسة و100 فوق سن السادسة، بينهم مراهقين وكبار سن”. وأضافت: “كنا نعرف أسرهم ونقاط تجمعاتهم والأماكن التي يمارسون فيها التسول”.
دعم حكومي غائب
بالنسبة إلى المستشار بوزارة التنمية الاجتماعية، محمد يوسف إبراهيم، فإن “ظاهرة التسول الآن فوق طاقة وزارة التنمية الاجتماعية التي لا تقدم شيئًا الآن لشريحة المتسولين، بينما في الماضي كانت الوزارة تدير مركزًا للإيواء المؤقت للأطفال الذين يمارسون التسول، وذلك بدعم من منظمة اليونيسف حيث يتم حصرهم بعد دراسات وإحصاءات وتقدم لهم المأوى والطعام والحصص المدرسية، كما يتم إدماجهم في أسرهم. والآن كل شيء قد توقف مع الحرب”.
وأضاف إبراهيم في حديثه لـ”أفق جديد”، “هنالك شرائح هشة وضعيفة، وتكاد تكون معدومة وهؤلاء يلجؤون إلى التسول لسد جزء بسيط من احتياجاتهم اليومية، وأن مثل هذه الشرائح موجودة في جميع الدول”.


وتابع، “توجد شريحة من المتسولين في السودان يتخذون من التسول وظيفة دائمة، ولا توجد لديهم مهنة غيرها ولا يفكرون في أي عمل له عوائد مالية، وحتى إذا تدخلت الحكومة عبر أجهزتها لتوفير عمل للمتسولين يمكن أن يرفضونه باعتبار أن المداخيل التي يحصلوا عليها من التسول لا يمكن مقارنتها مع دخل أي وظيفة أخرى في المتناول”.
ورأى إبراهيم أن جزءاً كبيراً من المتسولين يمارسون الغش والكذب ابتغاء الحصول على المساعدة، كما أن هناك شباباً ضمن هذه الشريحة كان الأولى لهم البحث عن عمل بدلاً عن مد أياديهم للآخرين”. وزاد: “هناك أعداد كبيرة وسط المتسولين لديهم وظائف لكنهم يلجأون للتسول من أجل زيادة دخلهم المادي، فلابد من تدخل الدولة للحد من انتشار الظاهرة”.
فقدان الوظيفة
بالنسبة إلى الباحث الاجتماعي، إبراهيم كلوكة، فإن “ظاهرة التسول من قبل كانت متصلة بالتفكك الأسري وانفصال الأبوين وعنف الآباء والفقر الذي يقود الى التشرد الجُزئي أو الكُلى للأطفال والتسرب من المدارس”.
ويعزو كلوكة خلال حديثه لـ”أفق جديد” ازدياد أعداد المتسولين بالضرورة إلى مسألة الحرب، التي خرج على إثرها الكثيرون من دائرة التعفف إلى دائرة التسول، حيث فقدت بعض الأسر عائلهم في الحرب، وفقد آخرون وظائفهم ورواتبهم.
وأضاف: “هناك أيضاً أسر عديدة فقدت أموالها وممتلكاتها وتجارتها بسبب الحرب، وتحولت إلى أسر فقيرة، يمكن أن تدفعها الحاجة إلى طرق أبواب التسول”.
ويختم كلوكة حديثه بالتأكيد على أنّ معالجة ظاهرة التسول في الوقت الحالي أمر في غاية الصعوبة، لأنه في ظل الحرب الدائرة الآن يصعب تحديد الأشخاص المحتاجين من غيرهم.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى