الخاسر الأكبر
(الذين فرقوا وطنهم شيعًا وكل بما لديهم فرحون)
والمصير المحتوم لأفعالهم بائن وشاخص، لا يتجاهله إلا صاحب غرض أو من في قلبه مرض، أو ذلك الذي أعمى الله بصره وطمس بصيرته.
وزارة خارجية كينيا تعلن اعترافها بالحكومة الموازية قبل تشكيلها، ولا تكتفي بذلك بل تعلن أنها ستقوم بمساعدتها دبلوماسيًا.
والبرهان مشغول بتقطيع وتلتيق الوثيقة الدستورية ليعضد سلطته الزيف على بقايا وطن مهشم ومحطم، والمعاول ما زالت تحفر،
وطيران الجيش يقطع الفيافي ليضرب قرية في أصقاع كردفان تدعى “الدبيبات”، ومليون سؤال تطفر إلى الذهن ما هي أهمية “الدبيبات” في معركة تدور رحاها على أبواب القيادة العامة ومدارج القصر الجمهوري، ولا إجابات.
حلفاء البرهان يختارون منزلًا فارغًا من منازل كافوري التي يجأر سكانها بالشكوى من عناصر الجيش الذين ينهبون عنوة المتبقى من منازلها، ومن يحاول أن يحمي ممتلكاته من الذين أدوا القسم لحمايتها يكون نصيبه رصاصة تسكته إلى الأبد؛ يختار حلفاء البرهان منزلًا من تلك المنازل ليرقصوا داخله باعتباره منزل رئيس الوزراء السابق د. عبد الله حمدوك، ويتحدونه أن يعود إليه.
وجوقة الحرب مشغولة بالتصفيق والنعيق وكل بما لديهم فرحون، بعضها يصفق لانتصارات والوطن مهزوم، وآخرون يهتفون لحكومة يرون فيها الحل وما دروا أن فعلهم سينتج ما لا يريدون ولا له يخططون وبنجاحه هم فرحون، ووسط هذه التحولات السياسية والعسكرية، يبقى القصف المتبادل بين الأطراف المتحاربة هو العنوان الأبرز، حيث تزداد الهجمات على المناطق السكنية، ما يسفر عن مآسٍ إنسانية يدفع ثمنها المدنيون العزل. ومع كل غارة جديدة، تتعالى صرخات الضحايا، لكن لا أحد يكترث، فالأطراف المتحاربة مشغولة بتحقيق مكاسبها السياسية والعسكرية، بينما يصبح المواطنون مجرد أرقام في عدّاد الموت الذي لم يتوقف منذ فجر الخامس عشر من أبريل 2023.
تتشابك المشاهد السياسية والعسكرية والإنسانية في صورة معقدة ترسم ملامح المرحلة الراهنة، فبينما تتجه بعض القوى السياسية والعسكرية إلى تشكيل حكومة في مناطق سيطرة الدعم السريع بعد توقيع ميثاق سياسي تمهيدي، تحتفل القوات المسلحة بانتصاراتها الميدانية، وبين هذا وذاك، يجد المواطن العادي نفسه الضحية الأكبر، مسحوقًا تحت وطأة تداعيات الصراع.
والأطراف جميعها بلسان المواطن تتحدث، وعن حقوقه تدعي الدفاع، فالتوقيع على ميثاق نيروبي بحسب من صنعوه يأتي كمحاولة لترتيب الصفوف في مواجهة الوضع القائم، وخطوة ضرورية لمواجهة الأوضاع المتردية، والمؤيدون للميثاق يحتفلون بهذه الخطوة، معتقدين أنها قد تفتح بابًا لحل سياسي، لكن الواقع يشير إلى أن أي اتفاق سياسي لا يحظى بإجماع وطني يزيد من تعقيد المشهد، وكل فعل تكون رافعته الخارج لن يثمر غير التقسيم والتفتيت.
في المقابل، تحتفي القوات المسلحة بانتصاراتها على الأرض، معلنة السيطرة على مناطق إستراتيجية وتحقيق تقدم في جبهات القتال. المؤيدون للحرب يرونها تأكيدًا على قدرة الجيش على استعادة الدولة من قبضة الميليشيات، فيما يعتبرها آخرون مجرد مرحلة في حرب طويلة ستطحن الجميع في النهاية. فكلما تقدمت القوات في جبهة، اندلعت مواجهات عنيفة في أخرى، ما يعيد إنتاج دوامة الحرب دون نهاية واضحة.
في هذا المشهد العبثي، يبقى مصير البلاد معلقًا بين استمرار الصراع وفرص الحلول السياسية، ومع تصاعد المعاناة الإنسانية، يظل الحل مرهونًا بإرادة حقيقية لإنهاء الحرب، سواء من القوى الداخلية أو عبر ضغوط إقليمية ودولية أكثر فاعلية، وإلى ذلك الحين المواطن هو الخاسر الأكبر، في انتظار لحظة تعيد للسودان استقراره المفقود.