أم درمان.. تلوث بيئي

 أم درمان – انتصار فضل الله

 تواجه أجزاء واسعة من مدينة أم درمان غربي العاصمة الخرطوم، مشاكل بيئية خطيرة تتمثل في النفايات والجثث والقبور في الأحياء والمنازل وتفشي الوبائيات.

 وفي إحصائيات غير رسمية وبحسب تقديرات خبراء في البيئة؛ فإن المعارك الدائرة في بعض أجزاء المدينة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، خلفت ما يفوق 450 ألف طن من النفايات والأنقاض والمخلفات الكيميائية، ويوجد ما يقارب 150 كيلو جرامًا من الركام لكل متر مربع، ولا يخلو حي في المناطق التي تم تطهيرها والمناطق التي تشهد اشتباكات الآن إلا وبه قبور.

وطبقًا للمعلومات؛ فإن آثار الدخان والغازات في مناطق الاشتباكات تجاوزت الدمار الاجتماعي والاقتصادي تاركة وراءها تهديدات ومخاطر بيئية وصحية كارثية، ووفقًا لمصادر تحدثت لـ”أفق جديد”؛ فإن التأثيرات البيئية للحرب في أم درمان غير مسبوقة ولها تبعاتها المستقبلية والآنية على صحة المواطنين وارتفاع نسبة تفشي أمراض السرطانات بالإضافة إلى تلوث الهواء والمياه والتربة.

 مخاطر ماثلة

 لا يتمنى نازحون من القطاع العودة إلى الديار في ظل  وجود الجثامين المتحللة داخل منازلهم، وانتشار القبور والنفايات في الفسحات والميادين بالأحياء السكنية التي هجروها منذ اندلاع  الحرب في الخامس عشر من أبريل 2023.

 وعلم نازحون من مدينة أبو سعد التي تشهد اشتباكات عنيفة هذه الفترة، بوجود جثامين تحللت بالكامل داخل مناطقهم التي تحررت مؤخرًا تنبعث منها روائح كريهة بخلاف ملوثات البيئة الأخرى، وذكر البعض لـ”أفق جديدة” إنهم يدركون حجم الضرر البيئي الذي لحق بالقطاع وما يمكن أن يسفر عنه من أمراض، مؤكدين أنهم سيدفعون ثمنًا كبيرًا جراء الوضع الذي يمس حياتهم وحقوقهم واحتياجاتهم.

 “عائشة أحمد”، وأطفالها قررت العودة من مصر والاستقرار في منزلها بأم درمان، لكنها علمت بوجود خمس جثث متحللة داخل منزلها لأجانب يقاتلون في صف المليشيا، بالإضافة إلى جثة أخرى في “منهول” خارجي.

 يقع منزل عائشة في مربع 20 حي المغتربين بمدينة أبو سعد، تنبعث منه  الروائح الكريهة، وعلى مسافة أمتار من المنزل توجد أكوام النفايات وبقايا مخلفات الحرب.

 إزاء هذا الوضع المزري بالإضافة إلى ظهور عصابات “النيقرز” فضلت عائشة خلال إفادة لـ”أفق جديدة” البقاء في مصر إلى أن يتم إعلان وقف الحرب بالكامل.

 عائشة واحدة من آلاف النازحين الذين يعانون بالخارج ويتخوفون من مستقبل مجهول بالداخل. 

عملية رصد وأرقام

تسنى لـ”أفق جديد” القيام بجولة ميدانية في أحياء أم درمان، شملت “الشرفية، الشهداء، العباسية، ومربعات بأبي سعد”، رصدت خلالها كارثة بيئية تمثلت في قمم النفايات التي يغطي بعضها المجاري والخيران، كما رصدت ما يقارب الـ200 مقبرة في مناطق متفرقة، بالإضافة إلى وجود  4 قبور أخرى داخل مدرسة “عثمان صالح” وآخر في مدرسة الهجرة لم يتم نقلهم حتى اليوم رغم مضى أكثر من عام على تطهير المدن المعنية، والتقطت الكاميرا بقايا عظام آدمية بمدخل عمارة في العباسية، وبحسب إفادة صادرة من لجنة الإسناد المدني بالمقاومة الشعبية في الخرطوم، يبلغ عدد القبور في مناطق القماير والشرفية 51 مقبرة ما زالت موجودة.

فيما عبر عدد كبير من العائدين عن  قلقهم جراء الوضع، مطالبين بتطهير المنازل وإصحاح البيئة، بينما تخوف آخرون من العودة في ظل هذا الوضع، فيما تزداد الأوضاع الصحية والبيئية سواً مع الوقت خاصة في المناطق التي تشهد اشتباكات في القطاع الجنوبي بأم درمان.

وأبلغ سكان يعيشون في مناطق سيطرة المليشيا بغرب القطاع “أفق جديد” عن معاناة مستمرة بسبب قضاء أفراد المليشيا لحاجتهم في العراء، وتوالد الذباب والباعوض وانتشار القبور ذات الدفن السطحي وسطهم مما أسهم في تفشي الحميات والإسهالات وأمراض الصدر والعيون والكولير. وقالوا إن السرطان يهدد أغلبهم جراء الحرائق وتسرب الدخان والمخلفات الكيميائية الناجمة عن التدوين المستمر من الجيش، وحجم الرصاص الذي يطلقه منتسبو المليشيا طوال اليوم، مناشدين بتدخلات سريعة لإنقاذ حياتهم.

 مواد سامة وعجز حكومي

 لم تكن تصريحات خبراء البيئة لـ”أفق جديد” حول الكارثة البيئية بأم درمان مجرد  جرس إنذار، بل هي أعمق من ذلك، إذ أن الأزمة الحقيقية في تفشي أخطر الأمراض، مما جعلهم يطالبون بإعلان حالة الاستنفار البيئي والصحي في العاصمة السودانية الخرطوم عامة وأم درمان خاصة.

وأطلق الخبراء نداء إنسانياً عاجلاً للمجتمع الدولي للتعامل مع الكارثة التي تفوق إمكانيات الدولة الفنية والمالية، مشيرين إلى أن الخرطوم تشهد تلوثاً غير مسبوق ناتج من القذائف والمواد المستخدمة في هذه الحرب. وقالوا لـ”أفق جديد” هناك الكثير من الاتفاقيات الخاصة بهذه الملوثات التي وقع عليها السودان وتمنحه حق الحصول على مساعدات فنية وتعويضا وعوناً مالياً من المنظمات لمواجهة الكارثة.

 انعدام البحوث وتقييم الأضرار 

 يقول الصادق ابراهيم كارا المختص في الشأن البيئي لـ”أفق جديدة” الأضرار البيئية الناجمة عن حرب السودان كبيرة وواضحة، ويحتاج إعادتها إلى عهدها السابق تكثيف الجهود بسبب تأثيرها على التربة والمياه و الهواء.

وتابع: “من المؤسف ألا تجد البيئة حظها رغم أهميتها في قلب معاش المواطنين وصحتهم” مضيفاً: “إن البيئة في الحروب دائمًا الحلقة الأضعف”. وأشار إلى عدم وجود بحث أو تقييم للأضرار البيئية الناجمة عن الصراع الدائر الآن.

ووفقاً لخبرة كارا الطويلة في العمل البيئي، فإن كمية الأنقاض الموجودة في كل بقعة بأم درمان كبيرة جدًا ويمكن أن تزيد عن 450 ألف طن، تحتاج إزالتها ثم معالجتها والتعافي من آثارها إلى وقت ومجهود كبيرين، لا سيما وأن هذه الأنقاض والركام تحتوي على مواد خطيرة مثل الذخائر غير المتفجرة، وبقايا الدانات، والشظايا (الروايش وأغلبها سام)، إلى جانب بقايا المواد الكيميائية والصناعية المتبقية من نهب وتدمير المصانع والمخازن الملحقة بها، فضلاً عن النفايات الطبية.

 مشكلة مستعصية

يؤكد كارا أن النفايات وهي مشكلة البيئة المستعصية والمزمنة تتراكم في كل بقاع المدينة، وقد يقارب وجود 150 كيلو جرامًا في كل متر مربع ذلك رغم الجهود التي تبذلها سلطات الولاية، لا سيما أن أسباب عديدة أدت إلى استفحال الأزمة البيئية في مقدمتها أن المطامر الرئيسية ومحطة التجمع الرئيسية ومحطات التخلص الأخيرة تقع في بقع معادية، فضلاً عن نقص الوقود والحالة المعروفة لآليات ومركبات نقل النفايات ونقص الأيدي الخبيرة التي كانت تعمل في المحلية، هذه النفايات سواء كانت في مجاري المياه في الأحياء السكنية، سبب رئيسي لانتشار الروائح الكريهة والفئران، والباعوض والذباب، وتتسبب بشكل مباشر في أمراض خطيرة معوية وتنفسية وجلدية وتلوث المياه والإسهالات والحمى والملاريا، كما أنها سبب رئيسي لتفشي حمى الضنك بشكل وبائي.

انهيار الغطاء النباتي

 ضرر آخر ظاهر أشار إليه كارا وهو انهيار شبه كامل للغطاء النباتي بسبب اعتماد العائلات على أخشاب الأشجار. قائلا: “تم الهجوم بشكل غير مسبوق على الأشجار في المدارس وبعض المستشفيات والأماكن العامة والأحياء، بغرض الحصول على خشب الحريق الذي أصبح مصدر دخل لبعض المواطنين وقد ساعدت عوامل توقف أعمال الري والإهمال في ذلك مما يتطلب  النظر إلى القضية بعين الاعتبار، نظراً أن هذه الأشجار كانت ضمن بيئة شبه قاحلة وصرف عليها الكثير لتكبر وتعمر، منوهاً أن حرق الأخشاب والأنقاض والمواد البلاستيكتية سبب رئيسي للأمراض التنفسية وأمراض العيون بالإضافة إلى تسببه بخفض جودة ونوعية الهواء.

ويوكد كارا أن القبور والمدافن الموجودة داخل الأحياء أمر مثير للقلق ويبعث الكثير من المخاوف البيئية ومصدر خطر على الصحة العامة والتلوث الجرثومي وتلوث المياه ونشر الأمراض، خاصة في الأحياء التي كانت تخضع إلى قيود في الحركة، مشدداً على ضرورة إزالة المدافن ومعالجة آثارها مما يتوجب أن تتولاه جهة مختصة وذات خبرة خصوصاً وأن بعض المدافن بها جثث كانت متحللة أو شبه متحللة ومدفونة بطرق فيها الكثير من المخاطر على الذين كانوا يتولون عمليات الدفن بشكل عام.

ودعا إلى تقييم الوضع البيئي بشكل يسمح بخطة وتدخلات مناسبة وناجعة تجعل البيئة وصحة المواطنين في قلب أي خطة وطنية لإعادة أعمار ما دمرته الحرب.

 وضع خطير

 وصف الخبير البيئي بالمجلس الأعلى للبيئة بولاية الخرطوم د. بشرى حامد الوضع بالخطير قائلاً لـ”أفق جديد”: “أخطر ما في الحرب هو الشأن البيئي، حيث تشهد الولاية تلوثاً كبيراً جداً يتطلب مراقبته وإجراء تحاليل بيئية لمعالجة الآثار بعيدة المدى، مع أهمية أن توضع مشكلة البيئة في مقدمة الأولويات”.

 وأشار إلى أن المليشيا استخدمت أخطر الأسلحة الكيميائية ذات الأثر المتراكم والبعيد الذي ينعكس على الماء والهواء والتربة ونظم البيئة والتنوع الحيوي، متأسفاً لعدم وجود وسيلة لقياس هذا التأثير في الوقت الراهن جراء تدمير كل البنية التحتية للمعامل ومراكز البحوث التي تقوم بالرصد والمتابعة والتقييم والتقويم.

 وأضاف بشرى أن الحرب دمرت كامل منظومة الصرف الصحي بأم درمان، بالتالي تعطلها ما خلف كوارث بيئية، حيث أصبحت البيئة في مناطق الصرف الصحي غير قابلة للإستخدام الآدمي.

 وأرجع تعطيل خدمة النظافة ونقل النفايات إلى قيام المليشيا بسرقة كل المحطات الوسيطة وآليات جمع ونقل النفايات والعربات الضاغطة البالغ عددها 400 عربة وتهريبها إلى الخارج.

 ونبه إلى كارثة أخرى وهي المشارح التي تم تدميرها كلها وتحللت الجثث بداخلها وأصبحت الآن مصدراً خطيراً جداً للميكروبات والعدوى، مناشداً منظمات المجتمع الدولي والوطنية الإسهام في الأمر نظراً أن مسألة الجثث أكبر التحديات التي تواجه المواطنين العائدين.

حلول عاجلة

للجنة الإسناد المدني التابعة للاستنفار والمقاومة الشعبية بالخرطوم دور كبير حيال القضية، فقد كشف المهندس آمين سعد رئيس الاجنة عن 39 مقبرة بحي القلعة، ومقبرتين كبيرتين في منطقة الشهداء وحوالى 12 مقبرة بالشريفية والقماير، بالإضافة إلى قبور في مناطق أخرى لم يتم التصرف حيالها حتى اليوم.

 وقال لـ”أفق جديد” للجنة تدخلات مباشرة في جمع رفاة الجثامين التي تحللت ونقلها للمقابر الرئيسية، مشيراً إلى وجود جثامين تم تكفينها بـ”بطاطين وملايات” في منطقة القلعة جنوب الشهداء، مؤكداً أن قضية نقل القبور تحتاج إلى إجراءات خاصة بالطب العدلي والصحة، إلى جانب النيابة العامة، منوها إلى أن الإجراءات القانونية وغيرها تأخذ وقتاً وعليها تكلفة مالية كبيرة جداً، مناشداً الحكومة الاتحادية بتسهيل الإجراءات وتكفلها بنقل الجثامين من الأحياء إلى المقابر الكبيرة الرئيسية مع توفير المال لسداد الرسوم العالية التي يطلبها الطب العدلي.

وتابع: “عند تطهير المدن في البداية لا نتمكن عناصر اللجنة من الدخول بغرض أعمال النظافة على مستوى إصحاح البيئة وحمل الأنقاض والعربات التي تسد الشوارع إلا بعد دخول المركز القومي لإزالة الألغام”، مشيراً إلى انعدام إمكانيات إصحاح البيئة بأم درمان من ناحية معدات وعمالة، فهناك كمية نفايات كبيرة جدًا وهذا له أثر.

وأكد أن الحملات التي تنفذها اللجنة بأم درمان وكرري تكلف 250 ألف جنيه في اليوم. والآن نواجه نواقل الأمراض المتزايدة وهذا يرجع لعدم توفر الإمكانيات الكافية لعمل أصحاح بيئة بشكل كامل.

من جانبه يقول إسماعيل محمد آدم، وهو منسق الإدارة السليمة للجثامين بالهلال الأحمر في الخرطوم: “يتمثل دورنا في نقل الرفات وذلك بالتنسيق مع الجهات ذات الصلة في حكومة الولاية، وأن تدخل الهلال يتمثل في الأشياء السطحية”. مشيراً إلى أن دورهم يتمثل في نقل القبور الذي يرتبط بالأمر النيابي وهذا تطول إجراءاته.

 وأفاد مصدر في الدفاع المدني “أفق جديد” أن تدخل الدفاع المدني يأتي بعد تقدم الجيش ودحر المليشا نهائياً في أي رقعة جغرافية، في وقت يستعصى عليهم العمل في المناطق التي تم تطهيرها لأنها أصبحت مرمى نيران.

 فيما تعهدت ولاية الخرطوم في إطار برنامج عودة الحياة إلى طبيعتها، ببحث مشاكل البيئة وإطلاق حملات نظافة وغيرها وإيجاد حلول عاجلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى