الأسطورة ..
عن حديقة الكلمات.. عن أيمن هاشم

وسيلة حسين
تتجمع نتفٌ صغيرة من الحكايا المنسية، من هناك وهنا، في كفِّ أيمن هاشم، الشاعر والقاص، تجيء من كتب قديمة طوتها الأضابير المُهملة، من أفواهِ ومؤانساتِ القرويين النادرة تحت ضوء القمر، أحيانًا يبعثها أصدقاء تهجس بهم آداب المثيولوجيا وسير الأبطال الخرافيين وسحر الغرائبيات. يمسك أيمن بالمحكية الواحدة، يضفرها بقلبه وعقله، وبحماسة الشاعر يُشكل لغتها المُهفهة المترفة، وبإخلاص المُدوّن يوثق للمحكيات الشفاهية والميثولوجيا وإعادة كتابتها عبر موقع حديقة الكلمات. يعيد إنتاج الغرائبيات والأساطير والأديان والمخاوف، حرصًا عليها من المحو والنسيان، مستلهمًا غناء أهل داكوتا الجنوبية، في محكيات غاليانو عن أمريكا الجنوبية: “أبتاه، ارسم لي العالم على جسدي”.
مقاومة الحرب بالذاكرة
يُخبر أيمن أن الحاجة باتت ماسة لإخراج السرد والمحكيات من غياهب الحرب التي قضت على معظم المؤسسات الثقافية وهجرت المبدعين، ولتتنفس الأقلام السودانية غير رائحة البارود.
“يركز المشروع، على القصص القصيرة والنصوص النثرية والكتابات المستلهمة من الفلكلور والأساطير الشعبية والمحكيات المحلية”. يقول لنا أيمن ومن ثم يضيف في حديثه مع “أفق جديد”: “يتمدد، أيضًا، ليشمل الأدب الإريتري وأساطير من جنوب السودان، بهدف مقاومة القيود الثقافية وبناء جسر بين المبدعين والقراء، مع الحفاظ على الهوية السودانية في التراث والأساطير المحلية والفلكلور والأمثال والطقوس المنسية والكائنات الخرافية مع تحليلات ثقافية، وحكايات محلية شفاهية توثق للتنوع الإثني واللغوي في مناطق السودان كافة، لإتاحة حراك ثقافي ضروري يحفظ الذاكرة الجمعية، ويؤكد قدرة الأدب السوداني على الخروج من عزلته والحوار مع العالم بلغته الخاصة”.
من طوطم الدينكا وحكايات تشكيل الوجود الأزلي في أرض السودان الجائلة، إلى تتبع المحكيات الشفاهية والوصف الأسطوري لتشكيلات المجتمعات في صيرورتها الأولى، للأناشيد الرعوية البكر في سهوب التاريخ وسيرة الحب والطفولة التي لا تنتهي، والملاحم والبطولات وحروب البقاء والفناء وحراسات الشياطين والمردة الخرافيين وقصص الجبال والأنهار المقدسة وطقوس الموت والحياة والأحاجي، يمسك الأبطال الشعبيون فيها، مثلما يراهم أيمن، بغربتهم وأوطانهم. “ينزحون في خيط الشفق كأنهم لاعبو بهلوان، وبسيقانهم الرقيقة الطويلة، يشخبطون الخرائط كطيور السمبر، كأطفال مشاغبين عبروا النهر، أثارهم على الرمل تذروها الريح، أحلامهم خفيفة كهيفات العُشر، يحتفلون بأعياد ميلادهم مع الموت، يطفئون ضحكاتهم بالحوقلة، يتقنون ميتاتهم العبثية، يرمقون الهلاك باستهزاء. أسماؤهم محض أرقام. أعمارهم تُحصى بفواصل عشرية. تاريخهم الونسة، يدحضون النسيان بالتثاؤب. الحياة عِندهم نومة طويلة والموت استيقاظ”.
“ليست “حديقة الكلمات” مسرودات تعكس المحكيات والأساطير القديمة والقصص السودانية لمختلف الثقافات السودانية وحسب، ولكنها أيضًا عمل جبار وألمحي وفكرة ذكية جدًا، لصناعة إلهام جامع، في ظل هذه المتاهة السودانية الماحقة، تريد أن تقول إن تراثنا السوداني، الثقافي والاجتماعي، واحد، ولنا جذر يخرج من هذه الحديقة السودانية الجامحة، التي تتيح أن نتعرف على بعضنا البعض حتى في مثل هذه الظروف الحالكة”. يقول الروائي منصور الصويم في حديث مع “أفق جديد” ومن ثم يضيف: “عندما اقرأ أسطورة ما أو محكية ما، عن المساليت أو من سرديات شرق السودان الغامضة، وأنا أنتمي، مثلًا، لجهة أخرى، فإنني اتعرف على تلك الثقافة بكل وجودها المحلي وثقلها التاريخي. أتعرف على الآخر المُغيًب بطريقة أو أخرى، فهذه المحكيات تكسر هذا الطوق المانع، وتهد الجدران الفاصلة بسبب سياسي أو اجتماعي أو سواهما”.
عن الآخر المُغيّب
نشأت حديقة الكلمات كفعلٍ مقاومٍ لحرب المغيبين التي تشهدها البلاد وتهدد كيانها الاجتماعي وتُفكك نسيجها الثقافي، منذ الإغلاق القسري للمؤسسات الفنية وهجرة المبدعين. تقدم مساحةً للأقلام السودانية لنشر القصص القصيرة والنصوص النثرية، ومقالات توثيق الفولكلور والأساطير الشعبية والمحكيات المحلية لحفظ الذاكرة الجمعية من الاندثار، وتعزيز الحوار بين مكونات السودان المتنوعة عبر تسليط الضوء على تنوعه الإثني واللغوي وفي محكياته. “بدأ المشروع قبل عامٍ ونصف العام كمَدوّنة إلكترونية بسيطة لدعم الكتّاب الناشئين، ثم تطور إلى منصة متكاملة تشمل أقسامًا متخصصة مثل نشر الأعمال الأدبية المرتبطة بالواقع والتراث، وأرشيف تفاعلي لفك رموز التراث المنسي، وتوثيق شفهي للتنوع الثقافي عبر مناطق السودان، بالإضافة إلى شراكاتٍ مع مؤسسات ثقافية لنشر كتب ورقية وإطلاق مكتبة سمعية للحكايات الشعبية”. ويضيف أيمن: “يستهدف المشروع ثلاث فئات رئيسية: الكتّاب الشباب الباحثين عن منصة لنشر إبداعاتهم بعيدًا عن قيود الحرب، والباحثين في التراث الساعين لفهم الطبقات الثقافية المهددة، والقراء العاديين الراغبين في اكتشاف أدبٍ يعكس تنوع البلاد، ويسعى المشروع لتجاوز كونه منصة إلكترونية إلى حراكٍ ثقافي مقاومٍ يهدف لتحويل الأدب السوداني إلى جسرٍ للحوار العالمي بلغةٍ ترفض التهميش، وبناء أرشيفٍ رقميٍ يحمي الذاكرة، وإثبات أن الثقافة قادرة على الصمود حتى في أحلك الظروف”.
يصف ممدوح أبارو، حديقة الكلمات، بأنها مادة قيمة عن التاريخ والاثنولوجيا، في قالب حكائي وأسلوب أدبي رفيع، تغوص تنقيبًا في التراث الشفوي والمرويات المحكية بأسلوب لبق وشيق، كما تُسارد التاريخ، بتبسيطٍ يسهُلُ هضمه لغير المختصين من القُراء المهتمين.
“لإزالة اللبس بين المروية الشفاهية كمنتجٍ سردي وأدبي يتناقله الناس الناس شفاهة، رأسيًا، عبر الزمان من جيل إلى جيل، وأفقيًا من مكان إلى آخر، فإن الأجناس الأخرى من النصوص والأشعار الثابتة، كالقصص والأمثال، لا تخلُ من إشارات تاريخية أيضًا”. يقول الناقد والروائي في حديث مع “أفق جديد” ومن ثم يضيف: “كانت الرواية الشفوية التاريخية يغلب على محتواها السرد التاريخي دائمًا”.
ويستشهد أبارو بشروحات الدكتور سيد حامد حريز في دراسته حول مناهج التراث والتاريخ الشفاهي عند العرب 1992. أن التاريخ الشفوي يشتمل وبصورة عامة على “المأثورات الشفاهية” التي تتمتع ببعد تاريخي وتركيب لغوي مميز، حيث يتأصل مضمونها من خلال تداوله عبر الزمان والمكان، كما يشتمل على “الروايات الشفاهية” التي لا تتمتع بالبعد التاريخي والبنية اللغوية، اللتان تميزان المأثرة الشفاهية، كما أنها لا تحتكم إلى قواعد اللهجة العامية الدارجة -تلك السائدة- في المنطقة التي تأتي منها تلك الروايات.
“حضور الرواية الشفوية والمأثرة الشفاهية في ظل التأثر بمنهجية جمع التراث، وكذلك تياري الواقعية الموضوعي وتيار الفكرة التاريخية عند الأوربيين في تدوين تاريخ السودان، كان حضورًا كبيرًا، مما يخلف أثرًا أكبر على مثل هذه المشاريع الكبيرة”. يقول أبارو مختتمًا.