عودة الاستبداد الإسلاموي

 

والحركة الإسلامية التي أشعلت الحرب، متعجلة لقطف ثمار دماء الشعب السوداني التي أهرقت في حرب فرضتها عليهم وأجبرتهم على خوضها بالعديد من الألاعيب التي تكشف بعضها وآخر لا يزال طي غبار المعركة التي عندما تنجلي سيكتشف هذا الشعب حجم الخديعة التي تعرض لها من هذا التنظيم الشيطاني، وبلا شك أن بشاعتها وقبحها يفوق بملايين السنين الضوئية تلك التي أطلقها شيخهم في بداية انقلابهم المشؤوم من العام 1989م عندما قال للعميد حينها عمر البشير “اذهب إلى القصر رئيسا وسأذهب إلى السجن حبيسا”. 

في خطاب يعكس عودة النهج السلطوي للحركة الإسلامية، خرج علينا الأمين العام للحركة والمسؤول الأول عن هذه الحرب علي كرتي، معلنًا ما وصفه بـ”مرحلة جديدة” للسودان، لكن هذه المرحلة ليست سوى إعادة إنتاج لذات النظام الذي حكم البلاد لثلاثة عقود، وأوصلها إلى الحرب والانهيار. فالرسائل التي حملها هذا الخطاب لا تبشر بمرحلة من السلام والاستقرار، بل تؤكد أن السودان يتجه نحو حكم ثيوقراطي جديد تحت ستار النصر العسكري.

يقدم كرتي خطابه وكأنه إعلان انتصار عسكري، لكنه في الحقيقة إعلان استيلاء سياسي للحركة الإسلامية على مستقبل السودان، في رسائل للداخل، يتحدث عن “تحرير كل شبر”، وهي لغة تعني أن الحرب لم تنتهِ بعد، مما يشير إلى أن السلطة الفعلية لا تزال ترى العنف كأداة للحكم. أما في الخارج، فحاول إيصال رسالة مفادها أن أي ترتيبات سياسية لا تأخذ الإسلاميين في الحسبان مصيرها الفشل. 

في لحظة يترقب فيها السودانيون نهاية الحرب والبحث عن بدائل سياسية حقيقية، يأتي كرتي ليؤكد أن الحركة الإسلامية ليست مجرد داعم للجيش، بل شريك رئيسي في مستقبل السودان، ويرسل تهديداته المعلنة لخصومه السياسيين والمبطنة لحلفائه من العسكريين ان هم تجاوزوا تنظيمه السياسي متناسيا أن هذه الحركة التي يريد فرضها على الشعب السوداني هي نفسها التي أسهمت في خلق الأزمة عبر سياساتها القمعية ودعمها لتأسيس المليشيات كالدعم السريع، ويريد من الشعب المغلوب على امرة ان يقبلها كمنقذ.

من الذي أوجد قوات الدعم السريع إن لم تكن سياسات الحركة الإسلامية في تسليح القبائل وتفكيك الجيش النظامي؟ ومن الذي قاد السودان إلى عزلة دولية وعقوبات اقتصادية استمرت لسنوات إن لم تكن هذه الأيديولوجيا التي لم تراعِ سوى مصالحها الخاصة؟

كرتي يتحدث عن “بناء الدولة” وفق رؤية جديدة، تشمل “التسامح ودولة القانون”، لكن عن أي قانون يتحدث؟ هل هو القانون الذي حكم السودان طوال ثلاثين عامًا بالمشانق والسجون والتعذيب؟ هل هو التسامح الذي قاد إلى فصل الجنوب بعد عقود من الحرب الدينية التي فرضتها الحركة الإسلامية على السودانيين؟

الحقيقة أن هذه ليست دعوة للتسامح، بل محاولة لإعادة إنتاج نموذج حكم يضمن للحركة الإسلامية السيطرة على السودان، ولكن هذه المرة في نسخته ” الداعشية” التي تصفي مخالفيها في الراي بأبشع الطرق وأخس الأساليب.

لا يخفي كرتي في خطابه التحذيرات المبطنة للجيش نفسه، وللشخصيات التي قد تسعى إلى إعادة ترتيب المشهد بعد الحرب بطريقة تقلل من نفوذ الإسلاميين. الرسالة واضحة: من يعتقد أن بإمكانه تحييد الإسلاميين عن السلطة بعد انتهاء الحرب فهو واهم. هذا تهديد مباشر لكل من في الجيش والسياسة، وهو إعلان بأن الحركة لن تتردد في استخدام كل أدواتها للحفاظ على نفوذها.

التوقيت الذي اختير لهذا الخطاب ليس عشوائيًا، بل هو إعلان واضح بأن الحركة الإسلامية ترى الحسم العسكري قاب قوسين أو أدنى، وأنها بدأت فعليًا في هندسة مرحلة ما بعد الحرب. لكن الحقيقة أن الحرب لم تكن ضرورة قدرية، بل كانت نتيجة مباشرة لسياسات النظام السابق، الذي يمثله كرتي اليوم. إن أكبر كارثة يمكن أن تقع على السودان اليوم، بعد كل هذه التضحيات، هي إعادة إنتاج النظام القديم في نسخة جديدة.

السودانيون لم يخرجوا في ديسمبر 2018 لإعادة كرتي ورفاقه إلى السلطة، ولم يضحوا بآلاف الأرواح ليجدوا أنفسهم مجددًا تحت حكم ثيوقراطي قمعي. إذا كان هناك شيء واحد يجب أن يكون واضحًا، فهو أن السودان بحاجة إلى قطيعة حقيقية مع الماضي، وليس إلى نسخة معدلة منه ناهيك ان تكون نسخة مشوهة مثل التي أظهرتها كتائبهم في كل مدينة أو منطقة دخلت إليها.

 وختاما نقول ما يطرحه كرتي ليس رؤية سياسية، بل خطة للاستيلاء على مستقبل السودان، متذرعًا بالحرب والنصر العسكري. هذه ليست بشائر استقرار، بل مقدمة لدورة جديدة من الاستبداد. إذا كان السودان سيخرج من هذه الحرب إلى دولة ديمقراطية تحترم حقوق مواطنيها، فلا يمكن أن تكون الحركة الإسلامية جزءًا من المستقبل، لأنها كانت دائمًا هي المشكلة،  ولم تكن يوما جزءا من الحل.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى