“التكايا “..من السودان إلى غزة
يتناول المقال مفهوم “التكية” في الثقافة السودانية، وكيف تطورت من مكان لتقديم الطعام بلا مقابل إلى رمز للتضامن الاجتماعي والكرم الشعبي.
يعود أصل الكلمة إلى اللغة التركية العثمانية، وانتقلت إلى العربية عبر الشام ومصر، وارتبطت بالصوفية والضيافة والزهد.
عادت التكايا في السودان مع اندلاع الحرب كاستجابة حية وفعالة لتقديم الطعام والمساعدة للمحتاجين،
هذه التكايا تنتصر على الحرب بالأكل، وعلى الوحشة بالجماعة، وعلى انعدام الأمان بالمشاركة.
يشير المقال إلى أن التكايا ليست بديلًا للمؤسسات الرسمية، بل هي نقد حي لها، ودرس في أن الإغاثة لا تحتاج إلى شعارات قدر ما تحتاج إلى تضامن مباشر ومحلي.
يعتبر أن عودة مفردة “تكايا” إلى اللغة اليومية ليست صدفة، بل هي تعبير عن حاجات الحياة الأساسية في زمن الحرب. الكلمة تعني في أصلها العربي “الاستناد”، وكأنها تقول: هنا تسند روحك، وجسدك، وكرامتك.
يخلص المقال إلى أن التكية اليوم ليست مائدة طعام فحسب، بل مؤسسة اجتماعية بديلة، أفقية، تضامنية، بلا تمويل ولا شعارات.
“التكايا “..من السودان إلى غزة
بقلم: محمد أحمد
في تقرير مصوّر بثّته قناة الحدث من غزة، تحدثت امرأة غزّية عن أسرتها التي حصلت على قليل من الطعام من إحدى “التكايا”. كان لافتًا – ومؤثرًا – أن تُذكر هذه الكلمة بالذات في تغطية ميدانية من فلسطين، فقد ارتبطت المفردة، خلال العام المنصرم، بسياق مختلف تمامًا: الحرب في السودان. كأنّ “التكايا” لم تعُد حكرًا على الذاكرة الثقافية السودانية، بل أصبحت مفردة عربية–حربية عابرة للحدود، تُستخدم عندما تتخلى الدولة، وتتكفل المجتمعات بإطعام نفسها بنفسها.
“تكية”: الكلمة التي تنتمي للناس
في اللسان السوداني، “تكية” ليست مجرّد مكان تُقدَّم فيه الأطعمة بلا مقابل، بل مفهوم اجتماعي ضارب في التاريخ. نشأت في كنف الطرق الصوفية، وكانت تُقام بجوار الزوايا والقباب، حيث تُطعم الفقراء وأبناء السبيل والمجذوبين.ثم تطورت لتكون جزءًا من العُرف الأهلي، حين يفتح العُمدة أو صاحب السعية بيته، لا بصفته الفردية بل كامتداد لمجتمعه.
هكذا، صارت التكية علامة على حضور الجماعة، على مسؤولية الأغنياء تجاه الفقراء، وعلى أن الطعام ليس سلعة فقط بل علاقة.
الجذر العثماني للكلمة
تعود كلمة “تكية” في أصلها إلى اللغة التركية العثمانية (tekke)، وهي التسمية التي أُطلقت على أماكن تجمع المتصوفة، حيث تُمارس الطقوس، وتُقدّم الأطعمة للزائرين والفقراء.
ومع الانتشار العثماني في المشرق الإسلامي، انتقلت الكلمة إلى العربية عبر الشام ومصر، وظلّت مرتبطة بالصوفية والضيافة والزهد. في السودان، لم تُترجم الكلمة فقط، بل تجذّرت وتحوّرت: أصبحت التكية مساحة للكرم الشعبي، وغرفًا مفتوحة في بيوت العمد والموسرين، ثم لاحقًا مؤسسة اجتماعية مجتمعية، بلا لافتة رسمية ولا مرجعية فوقية.
هكذا، تحوّلت مفردة عثمانية إلى كلمة سودانية خالصة، لا في النطق فقط، بل في الدلالة العميقة على التضامن الأهلي.حين تنبعث التكايا من الرماد مع اندلاع الحرب في أبريل 2023، انهارت الأسواق والمؤسسات، وأصبح الجوع سلاحًا موازيًا للرصاص.في هذا الفراغ، عادت “التكايا”، لا كحنين إلى الماضي، بل كاستجابة حية وفعالة.
في مدن مثل ود مدني، سنار، القضارف، الدلنج، والأبيض، أنشأ الأهالي تكايا مؤقتة:
نساء يطبخن بالأدوار، شباب يتكفّلون بالشراء والتوزيع، وأسر تُحوّل غرفًا من بيوتها إلى مطابخ عامة. كانت تلك التكايا تنتصر على الحرب بالأكل، وعلى الوحشة بالجماعة، وعلى انعدام الأمان بالمشاركة.
التكايا مقابل الإغاثة الرسمية: الفارق في المعنى والزمن
ما يميّز التكايا السودانية عن منظومات الإغاثة الرسمية والمنظمات الدولية ليس فقط بساطتها أو فقر مواردها، بل زمنها ومعناها. في حين تحتاج المؤسسات الأممية إلى خطط، وشراكات، وتمويل، وتصاريح عبور، كانت التكايا تنبثق فورًا من احتياج الناس، وبلا بيروقراطية. بينما توزّع المنظمات الطعام من علٍ، ضمن مشاريع مؤقتة، كانت التكايا تخلط الدقيق بكرامة الجار، وتُقدّم الطعام كجزء من نسيج الحياة اليومية. لم تكن التكايا بديلًا للمؤسسات، بل نقدًا حيًا لها، ودرسًا في أن الإغاثة لا تحتاج إلى شعارات قدر ما تحتاج إلى تضامن مباشر، محلي، أفقي، فوري. عودة مفردة “تكايا” إلى اللغة اليومية ليست صدفة. في زمن الحرب، تنهار الكلمات الرسمية، وتصعد الكلمات الشعبية التي تعبّر عن حاجات الحياة الأساسية. كلمة “تكية” تعني في أصلها العربي “الاستناد”، وكأنها تقول: هنا تسند روحك، وجسدك، وكرامتك.
ولأنها عادت بقوة في السودان، باتت تُستخدم اليوم في تقارير دولية وعربية عن مناطق أخرى، كما في غزة، لتعبر عن الظاهرة ذاتها:
طعام لا يأتي من الدولة بل من الناس، من أهل الحي، من روح الجماعة.
حين تعبر الكلمة من السودان إلى فلسطين، فذلك ليس مجرد تداول لغوي، بل دليل على ما يمكن أن نسميه “لغة الحروب الأهلية الكبرى”:
لغة يبنيها الناجون من تحت الأنقاض، ويكتبون بها مفردات جديدة للنجاة، أو يعيدون إليها معناها الحقيقي.“تكية” اليوم ليست مائدة طعام فحسب، بل مؤسسة اجتماعية بديلة، أفقية، تضامنية، بلا تمويل ولا شعارات. إنها بيان شعبي ضد المجاعة، وإعلان أن الخراب يمكن مقاومته بالمغرفة، لا بالبندقية. وإذا كان الإعلام العربي بدأ يلتقط هذه المفردة من واقع الخرطوم، فربما صار علينا أن ننتبه:حين تنطق الشعوب من وجعها، تصنع كلمات تنقذ بها بعضها البعض.