معاوية نور!! المهنة قاااااااااااارئ (بين زغاريد الطاهرة، ودموع مدام بوفاري)

عبد الغني كرم الله

عبدالغني كرم الله

(الحكاية الثالثة)

المهنة: قاااااااارئ

أين معاوية؟

تساءلت خالته، التي جاءت من “جبل أم علي”، وفي طرف ثوبها، صرة رمل من ضريح حامد أبوعصا، تعويذة ضد الحسد، والعين، كما تساءل الشباب من توتي، أو بنات من أهله، جئن للعرس، ولابد من رؤية الفتى الأسمر، النحيف، الوسيم طالب الطب بكلية كتشنر، أين معاوية؟ لم ير في الدار، أو الحوش، أين مضى في يوم مثل هذا؟

فتاة من حي الموردة تسأل بعينيها، تدور مقلتيها الجميلتين بمكر حول الدار، بحثًا عن الفتى، ولكن؟

ثلاث بنات من توتي، في دهاء جميل يبحثن عنه، ولكن لا حياة لمن تبحث، يسألن طفل همسًا “هل شفت معاوية”، يصرخ الطفل “معاوية معاوية، أي زول يسألني عنه”، يهربن وقد استعلن التوق للملأ، أيدي سبأ، تضحك الأمهات سرًا، إنه العشق والمراهقة، وسنة الحياة الفطرية القديمة، “وارحمتاه للعاشقين، تكلفوا ستر المحبة، والهوى فضاح”.

يحق هذا السؤال، كانت الزغاريد تعم الدار في حي الموردة، الجيران والشاب في شغل وطرب، الدار صارت مزار وملاذ الأهل من توتي، وجبل أم علي، والعمراب في أحياء البقعة، ونواحي الخرطوم، العناقريب لا تزال تتناثر في ظل الضحى، بشكل فوضى جميل، وحميم، وهناك من لا يزال نائمًا، من قهر السهر، من الصبية، والكهول، ولغط الأطفال والنساء، وهن يقطعن البصل، حتى تعجب من يسمع من؟ أم للمرأة القدرة على الحديث والسماع معًا، لأكثر من صوت صوت، ولمَ لا؟ لهن نصيب في مقام “لا يشغله شأن عن شأن”، كجدهن الشيخ الطيب السماني، الذي فطر في رمضان “عند أربعين فد مرة”، وبيان ذلك الحبوبة، تجدها مشغولة الكلام مع صويحباتها، وأطفالها قربها يشدون الثوب، وكل يطلب شيئًا، وحين تنهي كلامها تمضي لقضاء حوائجهم التي طلبوها، أو ترد على أسئلتهم، بلا ملل، أو نسيان، ما أوسع الطاقات في الأم، في المرأة، في النساء، كان هذا حال الحوش، والعرس، خلية نحل من الحب والزغاريد واللغط، والعمل، والغناء والروائح.

شباب يدهنون البيت، والعروس في دار بعيدة، بين دخان الطلح، وأطايب العطور، وتعلم الرقص، بمنأى عن الدار، والشمس، فاليوم عرس بنت الطاهرة، أخت معاوية، حتى أجن الليل، وعلا الطبل، والغبار، وتبخترت الطاهرة، فرحة بعرس بنيتها المباركة، ورجال جمع شملهم العرس، بعد أن تفرقت بهم سبل الحياة، وكانوأ أقران عمر ومكان، فمنهم شرق، وآخر غرب، سافل وصعيد، قبلي وبحري، فجلسوا في مسرات التذكر، وصور الطفولة العبقرية، وأيام كان العصر ذهبيًا، حيث الخداع الماكر، لكل طفولة بشرية، يقريها بأنها كانت الأحلى والأجمل، ما أجمل خدع الحياة، إن كانت تطيل كل فرد، وطفولته، فأهل مكة أدرى بشعابها، وطالما الخداع عامًا، اشتراكي الفخر، والخفر، فلم يكن طبيعة بشرية، تعنى بجماليات الطفولة، التي قال عنها برنادشو “العبقرية هي العودة للطفولة”، وختمها المسيح عليه السلام “لن تدخلوا الجنة، حتى تعودوا أطفالًا”، فجرى خيال تلكم الرجال للأيام الحبلى بالحلم، وكيف جرت الحياة بعده؟ في ذات الاتجاه؟ أم أمر في نفس يعقوب؟

لكن أين معاوية، وأين الزين؟ بطل الحكاية الشهيرة للطيب صالح، فقد كان في يوم عرسه، والحفل الشهير دائر في دومة ود حامد، والناس ملتفة من قبلي وصعيد، حلقة للمديح، وأخريات للأغاني، والعريس غائب، أين هو؟ كان في حضرة المقابر، جاث عند قبر شيخه وولي الله “الحنين”، الذي تنبأ له قبل رحيلة بالزواج الميمون من “أجمل بنات البلد وأحسنهم خلقًا”، فكان ما أراد، فمضى الزين للمقابر، شاكرًا، باكيًا، فقد كان الحنين أبيه، وشيخه الطيب، والزين بقلبه الحنون يعرف الفضل، والجمال، فقد كان عينته ميزان للرقة، يكتشف أجمل النساء، واللائي كن في غفلة عن عيون الصبيان، ببصره الحديد، رسول محبة وجمال، ويقضئ حوائج عشمانة الطرشاء، وموسى الأعرج، وكل مساكين الدومة.

لم تكن المقابر في عين الزين حجاب، وموات، كان قلبه العظيم، يعرف أن (الموت ميلاد في حيز جديد، تكون حياتنا أتم وأكمل، وأجمل وأبهى)، رحلة إلى أغوار الشفافية الكبرى، التي تعمى إلا على نور الحدس، وضوء الفراسة، فتقرفص بين الحضور الغياب، في قلب المقبرة، في قلب السر العظيم الأبدي “الموت”، وقد شفت الأرواح حتى غابت، عن بعض الحواس، كما يغيب البخور والعطر عن الحواس الصغيرة، ولكن أهل الهمم لا شأن له بهم، فتسامر الزين مع الحنين في ضريحه المعمور، روض من رياض الجنة، العشاق الكبار، تمتد خصوبة حياتهم لأفاق حولنا، بنور فراستهم، وضياء عاطفتهم، تجعلنا كالصم البكم، حيالهم، وبارك الله في الشيخ (جون لوك)، حين قال إن (الوعي) هو التجربة الفردية لكل فرد، وهيهات ههيات، بين كل قلب وآخر، وذهن وثان، وفوق كل ذي علم عليم.

أين مضى في ليلة عرس شقيقته، وطرب أمه الطاهرة، ومرح شقيقه شرحبيل بين بنات أعمامه وخيلانه، وفضليات أم علي، وحسناوات توتي من المحس، من حاكى قوامهن أشجار البان، وخصوبة الطمي عند قيف الجزيرة الساحرة؟ التي سحرت أخيه معاوية، وصديقه التجاني.

فأين هو من هذا الجمال؟ والألق، ولمة الأهل؟ وهو شقيق العروس، مع أخيه المرح شرحبيل؟ هل يجلس “محننا”، يمد يديه، ورجليه للفتيات، وهو وسيم طاعم، ويضع رجليه على مخدة فوق طربيزة؟ كي تجف الحناء؟

صرخت فتاة من الأهل، غير مصدقه، هل هذا معاوية؟ هل يمكن للمرء أن ينشغل عن عرس أخته؟ والحياة، والطرب؟ والسرور؟ أليس الفرح مُعدٍ؟ كالحزن؟ كالأمراض؟ هل يبرء المرء من حب الجمال ووقع الحياة في أعظم فرحها؟ هل مضى للمقبرة؟ لأبيه؟

 

(قااااااعد يقرأ؟؟؟؟؟؟، بهتت الفتاة، وخاب ظنها، أهناك حياة بين الصفحات؟ أجمل من العرس ولمة الاهل؟ أليست القراءة إلا ظلًا للحياة، وفي طلوع البدر ما يغنيك عن زحل؟ وفي الصباح يستغنى عن المصباح؟)، أمن هناء بدأ داء معاوية؟ الغياب في الخيال والفكر، بعيدًا عن الحياة؟ أليست الحياة نفسها فكرًا؟ وعاطفة وكتابًا ملموسًا؟ أي خاطر جرى في ذهن البنت الصبية الذكية، المحبة للحياة؟

معاوية مشغول بقراءة مدام بوفاري.

 

عبد الغني كرم الله

كاتب وروائي،سوداني له عدة كتابات في مجالات مختلفة و اصدر، مجموعة قصص قصيرة، وروايات، دمهتم بإدب الاطفال واليافعين، كتب في عدة مطبوعات ودوريات عربية واجنبية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى