يوم المرأة.. يوم الحياة

بابكر الوسيلة

نساءٌ سُقِيَت من جداولِهِنً المَحبَّةُ فينا، وأقَمنَ على هذا التُّراب حضارةَ “الحوش” العظيمة. خرجت من أصلابِهِنَّ مداركُ الحياة، فقَوِيت بهنَّ المعاركُ واستقامَ للحياة معنى.

من فيضهنَّ العامر بالأنهار، خرج الشُّعراءُ والمفكِّرون والأدباء، ومن موائدِهِنَّ البسيطةِ المُعدَّةِ بمحبتِهِنَّ، استدارت حَلَقاتُ السِّياسيِّين الفكريَّة، ومنها عرَفت البُيُوتُ دوائرَ فوزِ الأصدقاء بالعناق، وانفتحت الأساريرُ للغناء والطَّرب، وتخرَّجت مدارسُ ثوراتنا الشَّعبيَّة على دَرسِ أحضانهنَّ الحارَّةِ العامرةِ المواكب. على ظلالِهِنَّ أثمرت حدائق، وتحت أقدامِهِنَّ نبعت أنهار، وفوق سمائهنَّ رفرف عَلَمٌ وعِلمٌ وبزغت نجوم.

سعاد بت بابكر، كانت لا تجد أيَّ حرَجٍ من أن تُماوِجَنا في غَبَش الفجر حتَّى؛ تأتي بها إحدى العربات الَّتي تَحملُ الخُضَارَ من شمال أمدرمان، حيث الجزيرة اسلانج (وما هي الجزيرة اسلانج غيرُ سليلةِ فردوسٍ في رحاب الخُلد) إلى “مَلَجة” السُّوق الشَّعبيِّ بأمدرمان.

في طفولتي، لم أكن أعرِفُ كيف تأتي امرأةٌ في مثل هذا الوقت الفجريِّ إلى دارنا (حين كبُرتُ فهِمتُ الموجة) ولا مِن أين جاءت كنسمةٍ صباحيَّةٍ منعشةٍ إلى صدر أمِّي. أفتحُ عينيَّ وأجدُها أمامي في عناق لأمِّي عجيب، ما عرَفَ البُرُودةَ يوماً ولا التَّكلُّفَ العائليَّ المزيَّف.

سعاد بت بابكر، تملؤ حيِّزاً داخليِّاً منذ طفولتي وحتَّى هذه اللَّحظة. لا أعرِفُ امرأةً من أهلي مثلَها يُمكن أن تمنحَني السَّلامَ والهدوءَ الدَّاخليَّ والبهجةَ الطَّائرةَ على سماوات الاتِّجاهات كلِّها، والإحساسَ الأكيدَ بأنَّ هذا العالمَ ما يزال به خير ورحمة، وما يزال يَنعمُ بالكثير من حدائق الرُّوح المُثمِرة، وفيه من معاني الإنسان الحقيقيِّ ما يُمكن أن يُؤسِّسَ حضارةً عظيمةً بجهد إنسانيٍّ خالصٍ ومجرَّدٍ من نزعات الاستبدادِ المتكرِّرةِ في تاريخه.

سعاد بت بابكر وأخواتُها، فراشاتُ الوُجُود الجماليِّ لحياتنا الأُسريَّة الآسِرة. كم وطَّدنَ حياتَنا العاديَّةَ بالعناق، وكم خَلقت روائحُهنَّ معنًى لقيمة البيت، وكم تركت أقدامُهنَّ المغبَّراتُ حفريَّاتِ الرُّوح والذَّاكرة الَّتي كان لا بدَّ منها لمعنى الوُجُود العائليِّ وسط العشيرة، وكم تركنَ وراءَهنَّ زاويتَك الخاصَّةَ الَّتي خَلقت ظلالَها أرواحُهُنَّ المبطَّنةُ بأزهار الخُلد.

أعرِفُ أين أنتِ الآن يا سعاد، أعرِفُ أنَّك في إحدى الغرف الطِّينيَّة بالجزيرة اسلانج، وأكادُ أسمعُ صوتَ دعائك المتكرِّر في غبَش الفجر، كما أكادُ أسمعُ صوتَ قفشاتِك العفويَّةِ الحسِّ، وطقوسَ تحويلِكِ المأساة إلى ضحكةٍ طائرة. يا كمْ أنتِ قويَّةٌ يا سعاد! وكم أنتِ مبهجةٌ وصاحبةٌ ألفِ حديقةٍ تزدهي في تراب روحك!

سامحينا الآن يا سعاد، سامحينا على هذا الموتِ السَّافر بيننا، لكم أتمنَّى أن أكونَ بجوارك الدَّافئ في هذه الأيَّام، لأعرِفَ كيف تبرعمتِ الرَّصاصةُ إلى زهرةٍ تحت قدمَيك، وكيف تبدَّل صوتُها إلى محفل كوميديِّ رائج، ولكن؛ ربَّما للعمر بقيَّةٌ بمقادير الله يا سعاد.

هل لي الآن، وفي هذه اللَّحظة الَّتي تتراوحُ بين رَصَاصتين، أن أشكرَكِ على منحك كلَّ تلك البهجة لأمِّي! لم أجد على مرِّ حياتي امرأةً مثلَكِ تُضاهيك تغلغُلاً في قلب أمِّي الوسيع. تتحوَّلُ أمُّي بمجرَّد رؤيتكِ إلى فراشةٍ تدورُ حولَ حديقتِكِ في خفَّة نبضةِ قلب، يمتلئ البيتُ بالصَّوت المفعَمِ بالرَّنينِ الأخَّاذِ وتتحوَّلُ الحياةُ إلى جنَّةٍ سيِّدتاها أنتِ وأمِّي، جنَّةٍ تجري من تحتها الأنهارُ والقهوة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى