حمدوك جمل شيل حمّال التقيلة
خالد فضل
لا أعلم كثيرًا عن سيرة الرجل، ولم ألتقه كفاحًا، لكنه قطع شك حضورًا باذخًا في مسيرة الثورة الشعبية السودانية الباهرة التي هزّتْ عرش الاستبداد وزعزعتْ أركان جماعة الإسلام السياسي وصولجانهم الفاشي. بيد أنّه مواطن سوداني قُح، فيه سمت أهل كردفان الغرة، التواضع شيمة العلماء، الإنسانية والهدوء وسماحة الطبع، سعة الصدر وعمق الرؤية ونفاذ البصيرة، رجل من عامة السودانيين، بساطة وقسمات وجه صبوح، ليس بطعان ولا لعّان ولا فاحش ولا بذيء. يزن كلماته بميزان المصلحة الوطنية العامة، بصره مشدود دومًا للمستقبل، يبشّر ولا ينفّر، يشحذ الهمم ويرفع المعنويات بعباراته البسيطة العميقة المغزى، سنعبر سنصمد وسننتصر، ذاك فال حسن، وقيمة عالية لو تدركون. قيل إنّ الراحل د. جون قرنق كان يخاطب جنوده في أوج الإحباط والخسائر في المعارك، يلوح لهم بعلامة النصر، واعدًا بتحقيقه في قادم الأيام، فيرتفع المورال (وييي SPLA ويييي.. جون قرنق ويييي).
د. عبدالله آدم حمدوك، سليل أسرة عادية من نواحي الدبيبات بجنوب كردفان، تخرّج في جامعة الخرطوم، وكافح حتى نال درجة الدكتوراة في الاقتصاد بخلفيته العلمية في الزراعة، وتعددت خبراته الدولية في مضمار التنمية والنهوض بالمجتمعات الخارجة من أتون الحروبات الدامية، لذلك قبل التحدي، وعاد ليقدم خبرته من أجل شعبه وأهله، لم يمتن على الناس، ولم يسخر منهم، لم يلعب على التناقضات بل سعى من أجل التوافق الوطني، وفي ذهنه ضرورة بناء مشروع وطني إنساني يعالج اختلالات الماضي، ويقود الشعب إلى آفاق ورحاب البشر في العصر الحديث. وبالطبع واجه ما هو معلوم من صنوف الأذى والعقبات والمتاريس، بعضها من رفاقه في قوى الثورة، وجلّها من الناقمين على زوال سلطانهم، من عناصر الحزب المحلول الذين تمركزوا أكثر ما تمركزوا في المكون العسكري/الأمني.
لقد ظلّ الرجل ينبه ويذكّر بالثورة المجيدة، ولكنه كان عفيف اللسان، فلم ينزلق في مهاترات فارغة مع غربان الشؤم التي كانت وما تزال تنعق في الأرض اليباب، لم يلقِ بالًا أو يضيّع وقتًا في ردود الأفعال، بل كان يكتب روشتات الدواء، الحزم التنموية الأفقية وتكامل المصالح بين أقاليم البلاد وثرواتها وثقافاتها وفوق هذا وذاك بين أناسها الجميلين، يوضح ضرر التشاكس والتشرذم المدني/المدني، والعسكري /العسكري، والمدني /العسكري، ويتوق لتقديم نموذج ناجح لشراكة مثمرة تضاف إلى إرث البشرية في معالجة الخطوب. تحمّل الاتهامات بالضعف، والتزم الصمت لأنّه كان يرى ببصيرة نافذة مغبة الانسياق وراء العواطف الملتهبة في أوضاع تحتاج إلى الحكمة والروية وبعد النظر، فكان حديثه عن الإصلاح المؤسسي، وعن الشراكات الاقتصادية المنتجة، وعن أساس النهضة في البنية التحتية وأهمها مجالات الطاقة والنقل، وقطاع الخدمات، فولج إلى العالم عبر الخطط، وانعقدت من أجل مساعدة السودان المؤتمرات الدولية، وأزيح اسمه من قائمة الإرهاب فانفتح أمامه نفاج العودة إلى المجتمع الدولي بعيدًا عن بند العقوبات، وراجمات مجلس الأمن الدولي بفصله السابع المعلوم، فانتقل السودان إلى كنف الرعاية عوضًا عن العقوبات، ومن عبء المراقبة ورفع العصا إلى أفق المساعدة في الفصل السادس.
ظل حمدوك أمينًا لما يراه من مسار صحيح لبلاده، الانتقال المدني السلمي صوب الحياة الديمقراطية الحرة، فكان تحقيق السلام الشامل والعادل مقصده، وعلى نهج الخطوة خطوة سعى إلى الجبهة الثورية، وزار الحلو في كاودا ولم ينقطع منه الرجاء في نداءاته المستمرة لعبدالواحد محمد النور. لم يغفل العدالة، فعضّد عمل لجان التحقيق، ولجنة إزالة التمكين، وفتح صفحة مع المحكمة الجنائية الدولية، مطلب إنصاف الضحايا، وما ورد في اتفاق السلام مع حركات دارفور.
كان الرجل يُعْمِلُ العقلَ، وهو يتعامل مع تعدد الجيوش، يعلم الخطر الكامن وراء تلك البلوى، بخبرة نازع الألغام سعى، وعندما شبّ الحريق المدمر في البلاد، نهض منافحًا عن السلم في أتون اللهيب، متمسكًا بمنهج ثورة ديسمبر في التحول المدني الديمقراطي، وتخفيف ويلات الحرب على المدنيين، فكتب الخطاب داعيًا البرهان وحميدتي إلى لقاء صريح، ونقاش أخوي صادق. استجاب حميدتي بالفعل، وقبل البرهان؛ لكنه نكص في آخر المطاف. فلم ييأس الرجل، وظلّ يبذل النداء تلو النداء، يخاطب في المحاربين صحوة الضمير، وهو في سعيه ذاك يلقى عنتًا، ويصيبه من دوائر التضليل والدعاية البغيضة وخطاب الكراهية وابلًا لا ينقطع من التخرصات، ولكنه ظلّ على موقفه الصميم، داعيًا للسلم، نابذًا للحرب، مدينًا للعنف والانتهاكات من أي طرف جاءت، وأصابته الحرب في أسرته، فما ولول لا شق الجيوب ولطم الخدود، بل واصل دعوته من أجل كل السودانيين، فهم عنده كلهم أهله وأسرته الأقربين، دون تمييز جهوي وعرقي ومناطقي، لقد خان التفاهة والانحطاط في الخطاب والموقف حقًّا، واستقام على عمالته للنزاهة والاستقامة، وأكرم بها من خيانة وعمالة وأسعد. وحتمًا سيأتي يوم يقلّب الناس فيه صفحات التاريخ، سيجدون حمدوك على صدر قائمة الشرفاء في بلادنا، ممن بذلوا وما يزالون صادق الجهد من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه في وطن تهشّمه مع الأسف نزوات الدناءة وسفه العقول.