الفن التشكيلي السوداني في مواجهة الحرب
يلعب الفن التشكيلي السوداني دورًا مهمًا في مواجهة الحرب من خلال التعبير عن الواقع وتوثيق الأحداث وتعزيز القيم الإنسانية، مع التأكيد على أهمية دعم الفنانين التشكيليين السودانيين في الشتات.
يرى الفنانون التشكيليون أن للفن التشكيلي السوداني دورا كبير في مواجهة الحرب، من خلال التعبير عن توعية المجتمع بأبعاد الواقع الراهن،وايجاد الحلول من خلال تعزيز القيمة الإنسانية.
يبرز دور الفنانين في الشتات في توحيد صوتهم ضد الحرب، واستخدام الفن كأداة للمقاومة والتعايش.
وتبرز أهمية دعم الفنانين التشكيليين السودانيين في الشتات، وإنشاء منصة رقمية تجمع أعمالهم وتخلق فرصًا للمشاركات الفنية.
الفن التشكيلي السوداني في مواجهة الحرب
محمد إسماعيل – القاهرة
في أزمنة الحروب ما الذي يمكن للفنان التشكيلي أن يفعله عندما يتم تجريده من أدواته ومن أبجديات الحياة، ويتم ترحيله قسراً بعيداً عن البيئة التي اعتاد على العمل فيها.
ربما يميل البعض إلى الاعتقاد الشائع أن في أزمنة الحروب يتراجع دور الفن في مواجهة العنف والدماء والموت. أما النقاد والمشتغلين بالفن التشكيلي فلهم رأي مخالف .
وأمام هذا الوضع الشائك، توجهت (أفق جديد) لثلاثة فنانين تركوا بصمتهم في مسيرة الفن التشكيلي السوداني، وطرحت عليهم السؤال التالي: (ما دور الفن التشكيلي السوداني في مواجهة الحروب)؟
والفنانون هم عصام عبد الحفيظ الذي يقيم في كينيا، والدكتورة سوزان إبراهيم مقيمة في القاهرة، والدكتور صلاح فرح وهو مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية.
خطاب الكراهية:
وبدأت الدكتورة سوزان إبراهيم حديثها، بالتأكيد على أن الحروب تترك آثارًا كبيرة لما تخلفه من دمار للحياة الإنسانية. فما عادت الخسائر هي روحية أو مادية فقط بقدر ما تحدثه الحرب من تشوه في النسيج الاجتماعي خاصة عندما يتعلق الأمر ببث خطاب الكراهية بين المجموعات العرقية المختلفة .
وقالت: “الحرب الحالية هي أكبر كارثة مرت على تاريخ السودان الحديث، فبالإضافة إلى الصراع الدموي والنزاعات والتدمير الاقتصادي لم ينجو القطاع الثقافي من التدمير الممنهج والمتعمد، إذ تم استهداف المعالم الآثارية والآثار وأشكال التراث الثقافي المادي المحفوظ وغيره، كما استهدفت الحرب تاريخ وجذور وهوية شعب كامل ذات تنوع ثقافي وعرقي وإثني “.
تدمير الأعمال الفنية:
وأضافت: “إن العنف والإرهاب هي سلوكيات متنافية تماماً مع ما تحدثه الثقافة في الحياة الإنسانية ودورها في تنمية المجتمع، ومع ذلك تلعب الثقافة نفسها دوراً مهماً في فهم طبيعة هذه الحرب وأبعادها السياسية والاجتماعية. فالفن وهو أحد مكونات الثقافة، لم يكن أبداً بمعزل عن التغيرات السياسية، الاجتماعية الاقتصادية على مر التاريخ. إذ تتداخل الفنون والثقافة ككل مع علوم أخرى كعلم الاجتماع والأنثروبولوجي في قراءة الواقع الراهن وتحليله ومعرفة أبعاده المختلفة كمرتكز أساسي لفهم جذور. الوضع السياسي وما يجري من أحداث مؤثرة على المجتمع المحلي والدولي وتقديم الحلول الممكنة.
الشتات الكبير:
وتابعت قائلة لـ(أفق جديد): “الفن التشكيلي السوداني كأحد ضروب الفنون الأخرى له دور كبير قبل وأثناء وبعد الحرب، ولكن قبل ذلك أود أن أشير إلى أن الحرب امتدت آثارها لتشمل هذا الخطاب الجمالي المهم، فقد تأثر الفنانون مثلهم مثل غيرهم من أفراد المجتمع بالانتهاكات التي خلّفتها وما ما تزال تخلّفها الحرب والصراع القائم حالياً في السودان. فقد عانى الكثيرون من أهوالها من تدمير لأعمالهم ومنتوجهم الفني المتراكم عبر خبرات وسنوات طويلة، بالإضافة إلى فقدان وظائفهم وأنشطتهم الفنية، وقد أجبر عدد كبير منهم على ترك ديارهم والنزوح داخل السودان ومنهم إلى خارج حدوده في شتات كبير وبيئة جديدة يواجهون تحديات كبيرة للاستمرار”.
وأردفت: “في ظل هذه الأزمة الإنسانية والكارثة التاريخية التي يمر بها السودان إلا أن هنالك دوماً صوت يعلو وهو صوت الفنانين الذين يستخدمون أدواتهم وأساليبهم المختلفة والمتنوعة في التعبير وعكس أصوات الآخرين الذين لم يمتلكوا هذه القدرة التعبيرية الجمالية في التعبير والتنفيس عن حالهم؛ لذلك لم يكن الفن هو أداة ترفيهية أو ترويحية أو وسيلة للتعبير فقط بقدر ما هو خطاب جمالي قوي وعامل من أهم عوامل التغيير الإجتماعي”.
واستكملت حديثها قائلة :”إن الدور الذي يمكن أن يؤديه الفن التشكيلي والفن البصري عامة كبير جداً في ظل النزاعات والحروب، فبالرغم من أن الفن يتصدى دائماً لكل ما هو غير إنساني من أنماط نظامية قامعة أو سياسة متسلطة ومهيمنة أو حتى سلوك مجتمعي سالب وإبراز القيم الإنسانية والجمالية الرفيعة إلا أنه في ظل الحرب والصراع السياسي لابد أن يبرز دوره أكبر وأقوى من أي وقت مضى، حيث يلعب الفن دوراً كبيراً في عكس الحقيقة والواقع الراهن كموثق وشاهد على هذه الفترة التاريخية المهمة، وليس فقط كذلك بل هو مشارك حقيقي لإيجاد الحلول وإحداث التغيير المنشود نحو مستقبل أفضل”.
التطلع للتغيير:
وانتقلت الدكتورة سوزان إبراهيم للحديث عن دور الفنان في توعية أفراد المجتمع بأبعاد الواقع الراهن، وإيجاد الحلول بتعزيز القيم الإنسانية التي تحقق الاستقرار الأمني والسياسي و الاجتماعي، قائلة: “إن الفن التشكيلي يمّهد الطريق لسودان جديد عانى من ويلات الحرب ووعى الدرس ويتطلع للتغيير؛ لذلك يقع على عاتق الفنان دور كبير ومهم يتجلى في توعية أفراد المجتمع بأبعاد الواقع الراهن وسد فجوات الخلل الذي أدى إلى هذا التحول السياسي والاجتماعي ونتائجه، ومن ثم تذليل الحواجز وإيجاد الحلول بتعزيز القيم الإنسانية من خلال نبذ روح الكراهية، والحفاظ على الهوية والتأكيد على التنوع الثقافي. من هنا يمكن أن ندرك دور الفن الكبير في التحول والتغيير”.
وتابعت: “عبر المشاركات في الورش الفنية والمعارض التي من شأنها أن تسهم في إيجاد مصادر دخل متعددة، وفي الوقت ذاته تسهم في الشعور بالفخر وترابط الناس فيما بينهم سواء كان بالداخل أو خارج حدود الوطن”.
التنفيس عن المشاعر:
ولفتت في هذا الصدد إلى أن الممارسة الفنية نفسها تعتبر علاجًا وطريقًا للشفاء، سواء أكان للفنان نفسه أم لأفراد من فئات المجتمع المختلفة من خلال مشاركتهم في الورش الفنية التي تهدف للتنفيس عن مشاعرهم، وكعلاج نفسي لما بعد الصدمة على سبيل المثال”.
واختتمت حديثها قائلة: “الآن رغم هذه التحديات والعوائق الكبرى في هذه الظروف يعمل الفنانون في الشتات بتوحيد صوتهم ضد الحرب” .
النزوح الهائل:
من جهته حكى الفنان التشكيلي والمصور الفوتوغرافي
عصام عبد الحفيظ عن رحلته منذ اندلاع الحرب ومغادرته للخرطوم لأقاليم السودان المختلفة وقال: “غادرت مرسمي في الخرطوم عند الخامسة صباحًا، ذلك المكان الذي ظل ملاذًا إبداعيًا لي طوال سنوات. كانت رحلتي عبر بورتسودان، كسلا، القضارف، ثم إثيوبيا فكينيا، أشبه بلوحة متحركة رسمتها الحياة بفرشاة القسر والوجع. حملت معي ذكريات ثلاثين عامًا من التصوير الفوتوغرافي، كل صورة منها تحمل قصّة وشاهداً على زمنٍ لن يعود”.
ويضيف: “كم كان مؤلماً أن أغادر وأنا في رحلة خروجى الحزينة أترك خلفي زملاء وأصدقاء وأحباب وأهل تشتتوا في المنافي كألوان على لوحة ممزقة. نحن التشكيليون السودانيون في الشتات لم نعد مجرد فنانين، بل أصبحنا أوعية تحمل الذاكرة البصرية للأمة. كلّ منا يحمل في أعماله جزءاً من روح السودان التي تتناثر في أصقاع الأرض”.
حرّاس الهوية:
ويتابع: “اليوم، وأنا أنظر إلى أعمال زملائي في المنافي، أرى كيف تحوّلت معاناتنا إلى إبداع، وكيف صار النزوح مادة خام لأعمالنا. لكنّ هذا لا يكفي. هؤلاء الفنانون يحتاجون إلى دعم مادي ومعنوي، لأنهم ليسوا مجرد لاجئين، بل حرّاس للهوية البصرية السودانية. أعمالهم هي الوثائق التي ستخبر الأجيال القادمة بحكايتنا”.
وزاد: “ثمة تجارب متعددة منذ أيام بداية الحرب في عدة أماكن للنزوح، تمت مبادرات متعددة من تجمعات للفنانين من مختلف ضروب الإبداع، وكان للتشكيليون دور مهم كأفراد في مراكز الإيواء في مدنى وكوستي وعطبرة والقضارف، وشاركنا كاتحاد للتشكيليين في ورش ومعارض في بورتسودان في شراكات مع مراكز وفنانين وشعراء وموسيقيين، وتواصلت المبادرات الفردية والجماعية في المعارض والورش وكان أكبرها وأكثرها نجاحًا المعرض الذي نظمته مؤسسة رينمار (لا للحرب) الذى شارك فيه أكثر من 110 فنانًا تشكيليًا من (14 ) دولة في يوم 11/11/ 2024 وتم تداوله وانتشاره عبر الميديا وتم تدشينه في عدة مدن”.
مقاومة بالفرشاة واللون:
وأضاف عصام: “ندائي اليوم هو أن نتحوّل من ضحايا إلى روّاد، من منفيّين إلى حاملين لرسالة. الفن التشكيلي السوداني في المنفى ليس مجرد ملاذ، بل هو مقاومة بالفرشاة والألوان. ودعمه ليس ترفًا، بل واجبًا وطنيًا لحفظ ذاكرتنا الجمعية”.
قلب العاصفة:
من جانب آخر أشار عبد الحفيظ إلى تتعاظم التحديات أمام التشكيلين السودانيين يوما بعد يوم. وقال: “نعيش في قلقٍ دائمٍ على من اضطررنا لتركهم في قلب العاصفة. أمثال الأستاذة التشكيلية سارة البدري، إذ ظلت على تواصل معنا وتشاركنا في الوسائط المختلفة مع رسام الجداريات سهل الطيب بأم درمان برفقة رمز الصمود وصديق كل التشكيليين عبر الأجيال الأستاذ الفنان أبوعركي البخيت مع أبنائه، وهي رمزية الموقف والصمود رغم ما يعايشونه من ظروف قاسية للأسف”.
وتابع: “ما عهدناه من حروبٍ عابرة تحوّل إلى حريقٍ مستعرٍ يلتهم كل شيء. أصبحنا نناشد ضمير العالم لإنقاذ من حبستهم ظروف الحرب في مناطق النزاع، ونتابع الأخبار والدموع ثقيلة على المآقي لذلك سنظل ننادى ان تقف هذه الآلة المدمرة التي تطحن الإنسان والثقافة معاً”.
في ختام حديثه قال التشكيلي عصام عبدالحفيظ: “في خضم هذه العاصفة، يعمل اتحاد التشكيليين السودانيين على إنشاء منصة رقمية شاملة، تكون ملاذاً إبداعياً يجمع كل الفنانين في الشتات ، وينشر أعمالهم، ويخلق فرصاً للمشاركات الفنية، ويرفع صوت السلام عالياً. وذلك من خلال شراكات استراتيجية مع المنظمات الداعمة للسلام وحقوق الإنسان. نؤمن بقدرة الفن التشكيلي على خلق تأثيرٍ جمعيٍ عميق، وإنتاج وعيٍ بصريٍ يكون ركيزةً للتغيير الإيجابي”.
فيما يرى د. صلاح فرح أن الحرب التي اندلعت في 15 أبريل 2023 تسببت فيها عناصر عسكرية من الإخوان المسلمون لقطع الطريق أمام انتقال السلطة إلى المدنيين حسبما نصت عليه وثيقة دستورية توافق عليها تحالف عريض من القوى السياسية المدنية مع العسكريين بعد إطاحة ثوار ديسمبر بنظام عمر البشير الذي حكم السودان لفترة ثلاثة عقود.
وحول دور الفن التشكيلي في مواجهة الحرب أشار في حديثه لـ(أفق جديد) إلى سلسلة من المعارض الإسفيرية نظمتها صالة عرض ريمينار للفنون البصرية بعنوان (أيام الحرب) ضمت مجموعة من الأعمال تصور الضحايا المدنيين في الحرب التى تدور الآن في السودان .
وأشاد د. صلاح فرح بجهود القائمين على صالة (ريمينار للفنون البصرية) في تنظيم سلسلة معارض عبر الإنترنت تعكس تفاعلات تشكيلية مع الحرب.
وقال: “لقد ضمت سلسلة المعارض هذه عشرات الأعمال الفنية معظمها على الورق شارك فيها فنانون وفنانات بأعمال حديثة وأخرى من مقتنيات سبقت قيام الحرب.. تعكس الأعمال المعروضة مختلف أساليب التفاعل مع أهوال الحرب وتداعياتها، وكيف أبرزت في أعمال فنية.. وبينما يتنقل المشاهد عبر حلقات سلسلة المعارض. يتنقل العرض زمنيًا من الإرهاصات والتعبئة في فترة ما قبل الحرب إلى ما تلاها من تداعيات.. شانهم شأن مواطنيهم”.
لوحات تحت القصف:
وواصل قائلاً: “أنتج العديد من الفنانين أعمالًا إما تحت القصف المدفعي أو مستوحاة من تجاربهم الشخصية أثناء الحرب أو مشاهدتهم.. وبفعل الاضطرابات والصدمات النفسية التي خلّفتها الحرب، تغيّرت ردود أفعال العديد من الفنانين بشكل جذري خلال فترة وجيزة، إذ تحوّلت لديهم شعارات ثورة ديسمبر السلمية، وحتى التفاؤل بمستقبل أكثر ديمقراطية، إلى تأملات حزينة، ومشاعر فقدان وتخوين، ونزعة كراهية متماهية مع ما بات يعرف مؤخرًا بقانون “الوجوه الغريبة”.
وأضاف: “التشكيليون السودانيون بحثوا عن لغة مناسبة للتعبير عن الفوضى والدمار اللذين نتجا عن الحرب فأعادوا تقييم المواضيع والتقنيات والمواد والأساليب، بالإضافة إلى مكانتهم ومسؤوليتهم كفاعلين ثقافيين”.
ويلاحظ من متابعة معارض (ريمينار) أنه بينما اتبع بعض الفنانين نهجًا حداثيًا مستوحى من التجارب في فترة ما قبل الحرب أو نشأت كرد فعل على ما أحدثته الحرب، تبنّى آخرون أسلوبًا تصويريًا تقليديًا؛ وفي جانب آخر استقى آخرون عناصر من كلا النهجين أو تنقّلوا بين الأسلوبين لأسباب متنوعة..
تمثل سلسلة معارض (ريمينار) أجيالاً عديدة من الفنانين، بدءًا من أولئك الذين اكتسبوا شهرة عالمية مثل حسن موسى، وراشد دياب، وعبدالرحمن شنقل، وعصام عبدالحفيظ وصولًا إلى شخصيات أصغر سنًا لا تزال تبحث عن صوت مثل إجلال أحمد، وناجي اللعوتة، ومحمد مصطفى أبو الحسن، والسباعي صديق آدم، الذين تركوا بصمات ذات شأن يرجى أن يكون لها ما بعدها..