قاسم أبو زيد.. وما أدراك ما قاسم أبو زيد؟

السر السيد

منذ فترة وأنا أشتغل في كتابات تشبه السيرة الإبداعية لصنّاع وصانعات المسرح/ الدراما، في السودان، كنت كلما أحاول الكتابة عن قاسم أبو زيد أجدها عصية وصعبة الاقتناص.

في تدبري لهذا العصيان رجحت إنه لا يعود فقط لتعددية المجالات الإبداعية التي يشتغل فيها قاسم، فهو مخرج مسرح ودراما تلفزيونية وأفلام وثائقية وشاعر ومصمم سينوغرافيا ويغني ويرسم في بعض الأحيان، ولا يعود كذلك إلى صداقتي الطويلة معه التي قد تغدو حجابًا يكبح إمعان النظر في بعض الأحيان، وإنما يعود لغير هذا، فقد شعّ في خاطري على حين نشوة إن هذا العصيان يكمن في تلك المسافة المبهمة التي يرسمها قاسم بريشة ناعمة بين حالة كونه مبدعًا وحالة كونه إنسانًا “عاديًا”، مثل معظم البشر فهو متحرر من ذلك “السَمْت”، الذي تتدثر به هوية بعض من يوصفون بالمثقفين الذي يتبّدى في بعض أساليب تواصلهم مع محيطهم الاجتماعي، كما في القاموس الذي يستخدمونه مثلًا، فقد ظلّ قاسم وبرغم انتمائه لهذه الفئة وبجدارة يستخدم قاموس عامة الناس ويمشي معهم في دروبهم الوعرة مع حيازة لاختلاف خلّاق.

قُرب هذه المسافة التي يرسمها بين هويته “العامة” إذا جاز التعبير، وهويته “الابداعية”، وكذلك بين مجالات إبداعه المتنوعة، وجدتُ المدخل المناسب لمحاولة ملامسة التعرف على مشروعه الإبداعي، هو هذا البرزخ بين هويته العامة وهويته الإبداعية والبرزخ بين مجال ومجال، يلتقيان عنده ولا يبغيان.

فالمتأمل في مشروعه الإبداعي وهو يقف قرب هذه المسافة.. قرب هذا البرزخ يرى الشعر ويرى المسرح.. يرى التشكيل.. يرى الفيلم ويسمع نغمات الربابة.. يلتقيان ولا يبغيان.

ففي شعره الذي ينهض على بساطة معقدة وعلى شعرية كثيفة لليومي، نرى الريف في احتجاجه الفصيح ونرى المدينة في انفجارها المدوّي، حيث الحب، والحرب، والربح، والقهر، والنضال وتوهج الحياة.

(وانتحر النهار.. هسّه

نغنيك لي مدن.. شاخت

معاك أحلامي.. ما تنسى

تغنيك القرى الراحت

خلاص يا غربة.. ما ترسي

غنيناك.. وبنغني).

أو: (وهجك شوارع ذاتي

في ليل اليباب

ما تشفقي العطش.. الرحيل

النيل ركيزة

ودمعة الأحباب سِحاب)

أما في عروضه المسرحية فسنرى العجب العجاب، فقاسم الذي يأتي وبلا منازع في مقدمة صناع الحساسية الجديدة في صناعة العرض المسرحي السوداني في ثمانينيات القرن الماضي، والمتمثلة بصورة عامة في الرهان على جسد الممثل وجماليات النص هو في نفس الوقت صاحب الكم الكبير في إخراج المسرحيات النوعية مقارنة بأبناء جيله وبمن جاءوا بعده، إضافة إلى تميزه كمخرج في الجمع بين ما يسمى بالعروض “التجريبية”، كعرضي “مسافر ليل”، و”حكاية الرجل الذي صار كلبًا”، وغيرهما؛ وما يسمى بالعروض “الجماهيرية”، كعرضي “هبوط الجراد”، و”الناس الركبو الطرورة”، وغيرهما، وفي الجمع بين إخراج النصوص المسرحية الشعرية، بما تشتمل عليه من صعوبات في انتقالها لخشبة المسرح، كمسرحية (السديم)، للشاعر أدونيس، وبين النصوص المسرحية النثرية كمسرحية “في انتظار جودو” لصمويل بيكت التي أعدها وسودنها الأستاذ عثمان علي الفكي. بل وأكثر من ذلك وأعني هنا مغامرته التي أحدثت فرقًا في العرض المسرحي السوداني الثمانيني عندما أقدم على تحويل رواية ضو البيت “بندر شاه”، التي أعدها للمسرح الشاعر محمد محيي الدين إلى عرض مسرحي بديع.. هنا أستطيع القول إن ما أسميه بـ(السعة)، كمفهوم يحفّز على النظر في المتاح كممكنات تنتظر المقامرة “بالقاف” هو ما كان يحركه وهو يصنع عروضه، فجاءت بهذا التنوع في أساليب الكتابة وأساليب العرض وحاولت كلها أن تستجلي أسئلة الحب والقهر، والاستلاب، والنضال، والخواء، والأمل، كما في مسرحية (حكاية الرجل الذي صار كلبًا) للأرجنتيني أزفالدو دراكون وترجمة المخرج العراقي قاسم محمد وإعداد بروفيسور عثمان جمال الدين، وكما في مسرحية (مسافر ليل) لصلاح عبدالصبور ومسرحية (أربعة رجال وحبل) لذو الفقار حسن عدلان.

إنّ قاسم أبو زيد في هذه العروض وغيرها، يحاول أن يضيء ظلمات البشاعة والقهر ويسلط الضوء على أسئلة الإنسان المصيرية، ونضالاته، ففي مسرحية (الرجل الذي صار كلبًا) يجسّد لنا بشاعة النظام الرأسمالي في جعله إنسانًا يصير كلبًا مهمته النباح لحراسة ثروة صاحب العمل، فقط في سبيل الحصول على وظيفة. وفي مسرحية (مسافر ليل) يجسّد في قالب رمزي أقرب لمسرح العبث الأساليب التي تقهر بها السلطة المواطنين من خلال ما يدور بين عامل التذاكر والراكب. وفي مسرحية (أربعة رجال وحبل) يذهب بنا قاسم إلى مكان ما جفت ماء بئره الوحيدة لنكون شهودًا على ما يدور من جدال بين سكان هذا المكان لا يخلو من أصداء ذات طابع فلسفي وسياسي.

أما في دراما التلفزيون واستنادًا على ما أسميته مفهوم السعة، فسنجده قد تعامل مع معظم كتاب الدراما التلفزيونية بتنوع أساليبهم في الكتابة ومرجعياتهم الفكرية فأخرج لعبد الناصر الطائف مسلسل (أقمار الضواحي) ولذو الفقار حسن عدلان فيلم (ضل السيف) وللفاتح البدوي فيلم (خال البنات) ولقسم الله الصلحي مسلسل (السيف والنهار) وثلاثية (هل مات أحمد المبارك) وغيرهم من الكتاب، أما مغامرته الفارقة فكانت عندما أقدم على إخراج بعضًا من تداعيات يحيى فضل الله التي هي من الغني بمكان من حيث الأخيلة والأحداث وتسارع وتيرة السرد وكذلك عندما 

أقدم على تحويل واحدة من “أمشاج” الدكتور أحمد عبدالعال الموسومة بـ”مدهامتان”، بكل تكثيفها الشعري والشاعري وكأنها مملكة للمجاز إلى فيلم تلفزيوني عنوانه “عبير الأزمنة”.

أما في الفليم الوثائقي فيكفي أن نشير إلى سلسلة ممالك على النيل وفيلمه عن الشاعر سيدأحمد الحردلو إلا أن مأثرته الكبرى هنا فتتجلى في إخراجه فيلمًا وثائقيًا عن القارئ الجميل الشيخ صديق أحمد حمدون في سابقة هي الأولى من نوعها على حد علمي حيث لم أقف على فيلم وثّق لواحد من هذه الفئة الاستثنائية من المبدعين.

في خواتيم هذا التجوال المرهق والممتع في الوقت ذاته في عوالم الفنان قاسم أجدني لا أزال متسائلًا عن الكيفية التي استطاع أن يمحو بها هذا الفارق اللفظي بين هويته العامة وهويته الإبداعية وبين مجال ومجال، وأن يرسم تلك المسافة/ البرزخ، بينهما فلا يبغيان؟؟

إجابتي المحتملة هي أنه رسم هذه المسافة/ البرزخ لأنه يعرف ما يريد لذلك تحرك وفق سياسات تنظم إبداعه وتديره وكيف لا وهو المعلم الذي أسهم في أن تكون الفنون خاصة المسرح/ الدراما ضمن المقرر الدراسي في كلية التربية بجامعة الخرطوم، ثم في جامعة النيلين.

إنها لعوالم فسيحة ذات أمشاج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى