عامان من الحرب.. وسقوط الأقنعة

شريف محمد عثمان

مرّ عامان على اندلاع حرب 15 أبريل، الحرب التي لم تكن صدفة أو مجرد صراع على السلطة كما يروّج البعض، بل كانت نتيجة حتمية لفشل سياسي مزمن بدأ منذ لحظة استقلال السودان. فبعد أكثر من سبعة عقود من الحروب، والمجاعات، والنزوح، والدمار، لم يكن السودان بحاجة إلى حرب جديدة، بل كان في أمسّ الحاجة إلى السلام والاستقرار والحوار الوطني.

كان بالإمكان تجنّب هذه الكارثة عبر العملية السياسية والاتفاق الإطاري، لولا أن التنظيم الإجرامي، تنظيم الحركة الإسلامية قرّر إشعال فتيل الحرب، بعد أن هدد بها صراحة، وحشد كتائبه وأذرعه المسلحة لخوضها. ذلك التنظيم لا يؤمن بالعمل السياسي السلمي، ولا يعترف بالتداول الديمقراطي، بل يعتنق العنف كوسيلة وحيدة للبقاء في السلطة، كما أثبت تاريخه الطويل في السودان والمنطقة.

عامان من الحرب كشفا زيف الشعارات، وسقوط الأقنعة، وبطلان الروايات التي روّج لها أنصار الحرب. فالحرب، التي زُعِم أنها جاءت لحل أزمة “تعدد الجيوش”، لم تُنهِ الظاهرة، بل زادتها تعقيدًا، وولّدت مجموعات مسلحة جديدة على غرار قوات الدعم السريع، تنتشر اليوم في مختلف أرجاء البلاد. الأزمة لم تُحلّ، بل تفاقمت، والحرب التي ادّعوا أنها ستنهي حالة التشرذم العسكري، خلقت واقعًا أمنيًا أشد فوضى، ومشهدًا سياسيًا أكثر هشاشة.

لقد خُدع كثير من السودانيين بدعاية الحركة الإسلامية، التي قدّمت الحرب كحلّ لأزمة الدولة، لكنها كانت في الحقيقة وسيلتها للعودة إلى المشهد السياسي. واليوم، بعد عامين من الفظائع والانتهاكات والدمار، آن الأوان لأن يعترف كل من دعم هذه الحرب بمسؤوليته الأخلاقية، وأن يعتذر للشعب السوداني عن سوء التقدير، والمساهمة المباشرة أو غير المباشرة في تغذية آلة القتل والخراب.

بعض من روّجوا للحرب، بدافع  الجهل أو سوء التقدير، كانوا يطمئنون الناس بأنها “مسألة ساعات أو أيام”. لكن الزمن كشف أن هذه الرواية لم تكن إلا امتدادًا لحملة تضليل واسعة، تقودها الحركة الإسلامية. ويكفي الاستماع لتصريحات القيادي الإسلامي عمار حسن، الذي أقرّ علنًا بأنهم عملوا على تعطيل مسارات السلام، بدءًا من مفاوضات جدة والمنامة، وصولًا إلى جنيف، مرورًا برفض كل دعوات التهدئة ووقف إطلاق النار.

وبعد أن فشلت رواية “الحرب السريعة”، تحوّل خطابهم إلى تبرير استمرار القتال، بحجة أن الجرائم المرتكبة تمنع التفاوض مع الدعم السريع. هذا المنطق ليس فقط معيبًا أخلاقيًا، بل يتجاهل حقيقة دامغة: الحرب نفسها جريمة كبرى، لا تُبرَّر ولا تُبرّئ أحدًا.

هذا الخطاب القائم على الإنكار والانتقائية يعكس ازدواجية أخلاقية صادمة؛ أصحابه لا يرون سوى طرف واحد مذنب، ويتغافلون عمدًا عن فظائع الطرف الآخر. دوافعهم قد تكون جهوية، أو نابعة من مصالح خاصة، أو نتاج أقلام مأجورة لا يهمها الوطن، بل من يدفع أكثر.

الحقيقة التي لم تعد قابلة للطمس، أن جميع أطراف الحرب مارسوا انتهاكات بشعة بحق المدنيين، ولم تُظهر أي من هذه الأطراف التزامًا حقيقيًا بحماية المواطنين أو احترام القانون الدولي الإنساني. أما الشعارات التي رُفعت في بداية الحرب، مثل “استعادة هيبة الدولة” و”إنهاء تعدد الجيوش”، فقد سقطت سريعًا، وظهرت كغطاء لمشروع سياسي إقصائي تقوده الحركة الإسلامية. ويكفي أن نستشهد بتصريحات عبد الحي يوسف، التي قال فيها إن الحرب “أعادت للحركة الإسلامية بريقها”، لندرك مدى استهتار هذا التنظيم بحياة الناس ومآسيهم.

لقد كان بالإمكان إيقاف الحرب خلال أيامها الأولى، وإنقاذ آلاف الأرواح، لولا إصرار قادة الحركة الإسلامية، ومن يدورون في فلكهم، على استمرارها، طمعًا في استعادة مواقعهم السياسية. هؤلاء لم يترددوا في المتاجرة بدماء السودانيين، ولم يخجلوا من تمزيق وطنهم مقابل حلم بالعودة إلى الحكم.

اليوم، وبعد عامين من الكارثة، حان وقت الحقيقة. يجب أن نقولها بوضوح: الحرب لم تكن حلًا، بل جريمة كبرى في حق الوطن والمواطن. وعلى كل من أسهم فيها، أو دافع عنها، أن يتحلّى بالشجاعة، ويقف أمام الشعب والتاريخ ليعتذر، ويعترف بأن ما حدث كان خيانة لآمال السودانيين.

لقد آن الأوان لأن تتوقف هذه الحرب فورًا، وأن نعمل جميعًا – سودانيات وسودانيين – على معالجة آثارها، والاتجاه إلى حل سياسي شامل يعالج جذور الأزمات البنيوية التي أدّت إليها. نحتاج إلى مشروع وطني حقيقي لإعادة بناء الدولة، يبدأ بإصلاح شامل للمؤسسات، وعلى رأسها الجيش، ليصبح جيشًا قوميًّا، مهنيًّا، ومحترفًا، ملتزمًا بمهامه الدستورية، بعيدًا عن الولاءات السياسية والجهوية.

كما لا بد من عملية عدالة انتقالية شاملة، تجبر الضرر، وتنصف الضحايا، وتؤسس لمستقبل لا مكان فيه للإفلات من العقاب، ولا موطئ فيه لتكرار ما حدث. فسلام بلا عدالة ليس إلا هدنة مؤقتة، وحل سياسي لا يخاطب الجذور لن يصمد طويلًا، فتاريخنا شاهد على أن الحلول الهشّة والجزئية للحروب، لم تُنهِ الصراع، ولم تصنع سلامًا مستدامًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى