أزمة الكوليرا في السودان: صرخة نظام صحي منهار
يكشف تفشي وباء الكوليرا المستمر في السودان عن أزمة نظامية عميقة تجاوزت حدود المشكلة الصحية لتعكس انهياراً شاملاً في بنية الدولة. منذ اندلاع الصراع المسلح بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، تحول السودان إلى مسرح لواحدة من أشد الكوارث الإنسانية في العالم، مع تسجيل نحو 59,000 إصابة بالكوليرا وما يقارب 1,500 حالة وفاة بحلول أبريل 2025. يستعرض هذا التقرير الأبعاد المختلفة للأزمة، ويحلل تداعياتها على النظام الصحي، ويقترح سبل الاستجابة الفعالة.
هل يمثل تفشي الكوليرا مجرد أزمة صحية أم هو نتيجة لانهيار شامل؟
يكشف تفشي وباء الكوليرا المستمر في السودان عن أزمة نظامية عميقة تجاوزت حدود المشكلة الصحية لتعكس انهياراً شاملاً في بنية الدولة. فمنذ اندلاع الصراع المسلح بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، تحول السودان إلى مسرح لواحدة من أشد الكوارث الإنسانية في العالم. أسفر هذا الصراع عن مقتل ما بين 20,000 و150,000 شخص، ونزوح قرابة 13 مليون آخرين، مما خلق بيئة مثالية لانتشار الأمراض المعدية.
أعلنت وزارة الصحة الاتحادية السودانية عن أولى حالات الكوليرا في أواخر يوليو 2024، وبحلول أبريل 2025، وصل عدد الإصابات إلى نحو 59,000 حالة، بينما بلغت الوفيات ما يقارب 1,500 حالة وفقاً لتقارير منظمة الصحة العالمية. تنتشر بكتيريا الكوليرا عبر الطعام والماء الملوث، وتزدهر في الظروف غير الصحية التي أصبحت سمة أساسية للمخيمات المكتظة التي تأوي ملايين النازحين.
كيف تحولت المياه من مصدر للحياة إلى ناقل للموت؟
مع افتقار 17.3 مليون شخص إلى مياه الشرب الأساسية، أصبح من المستحيل عملياً اتباع ممارسات النظافة اللازمة للحد من انتشار المرض. في ولاية الجزيرة، أدى النزوح الجماعي إلى حرمان السكان من المياه النظيفة والغذاء والرعاية الصحية الأساسية، مما فاقم من خطر انتشار الوباء.
شهدت منطقة النيل الأبيض خلال الشهرين الأولين من عام 2025 ارتفاعاً حاداً في حالات الكوليرا، حيث أصابت 2,700 شخص وأودت بحياة 65 آخرين. وفي الأسبوعين التاليين، أصيب 2,700 شخص إضافي وتوفي 92 آخرون. وقد تتبع المحققون تفشي المرض إلى حادثة محددة: صاروخ أطلقته قوات الدعم السريع أصاب محطة توليد الكهرباء في مدينة ربك في 16 فبراير، مما أدى إلى توقف مضخات المياه عن العمل واضطرار السكان للاعتماد على مصادر مياه غير آمنة.
لماذا تعجز المستشفيات عن مواجهة الوباء رغم الجهود المبذولة؟
تحركت وزارة الصحة السودانية لاحتواء تفشي المرض، لكن الاستجابة لم تكن كافية بالنظر إلى حجم الكارثة. في أواخر فبراير، أطلقت وزارة الصحة بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية واليونيسف حملة تطعيم في ولاية النيل الأبيض استهدفت مليون شخص. كما أنشأت منظمة أطباء بلا حدود مراكز لعلاج الكوليرا في مناطق متعددة، لكن الطلب على الخدمات ظل يفوق الموارد المتاحة بشكل كبير.
في مستشفى كوستي التعليمي، اضطر الطاقم الطبي إلى علاج بعض المرضى على الأرض نظراً لنقص الأسرّة المتاحة، في مشهد يعكس الضغط الهائل على المرافق الصحية المتبقية. حتى قبل الحرب الأهلية، كان النظام الصحي في السودان يعاني من نقص التمويل والتجزئة ونقص حاد في القوى العاملة الصحية، مع تفاوتات كبيرة في الوصول إلى الرعاية الصحية وجودتها. أما الآن، فقد أفادت منظمة الصحة العالمية أن الصراع العنيف أجبر 70% من مرافق الرعاية الصحية العامة والخاصة في الولايات المتضررة على الإغلاق بحلول نهاية عام 2023، بينما تشير بيانات وزارة الصحة الاتحادية إلى أن أكثر من 30% من المستشفيات العامة لم تعد تعمل في غضون عام من بدء الحرب.
هل أصبح استهداف المستشفيات والكوادر الطبية استراتيجية حرب؟
لم تكن الهجمات على المرافق الطبية عشوائية بل متعمدة في كثير من الأحيان. تشير التقارير إلى اعتداءات مستهدفة على العاملين في مجال الرعاية الصحية ونهب المستشفيات، مما عرقل بشدة تقديم الخدمات الأساسية. يواجه العاملون في مجال الرعاية الصحية في السودان ظروف عمل متردية، ويفتقرون غالباً إلى العلاجات الطبية الأساسية، بما في ذلك المحاليل الوريدية والمضادات الحيوية وأملاح الإماهة الفموية.
فرّ العديد من الأطباء والممرضين من البلاد هرباً من العنف وعدم الاستقرار، مما فاقم الأزمة، بينما لا يتلقى العاملون الصحيون المتبقون رواتبهم في مواعيدها. كما أدى انعدام الأمن السياسي إلى تعطيل سلاسل التوريد، مما أعاق نقل الإمدادات الطبية والعلاجات الضرورية.
ما مصير ملايين النازحين في ظل أكبر أزمة نزوح في العالم؟
وصل النزوح في السودان إلى مستويات غير مسبوقة، حيث نزح داخلياً حوالي 8.6 مليون شخص، في أكبر أزمة من نوعها عالمياً. وفرّ نحو 3 ملايين شخص إلى دول مجاورة، بما فيها جمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد ومصر وإثيوبيا وجنوب السودان. ومع ذلك، يواجه العديد من طالبي اللجوء عقبات في الدخول، مما يجبرهم على العودة إلى الظروف المحفوفة بالمخاطر التي سعوا للهرب منها.
تكافح مخيمات اللاجئين المكتظة في الدول المجاورة لاستيعاب تدفق الوافدين الجدد، كما أن ندرة الموارد الطبية تعيق جهود احتواء تفشي الأمراض، بما في ذلك الكوليرا. وقد أدى الصراع المستمر إلى تعطيل أنظمة المراقبة الصحية، مما صعّب تطبيق التدخلات المناسبة في الوقت المناسب.
كيف تؤثر العقبات البيروقراطية والأمنية على وصول المساعدات الإنسانية؟
تواجه الوكالات الإنسانية عقبات كبيرة في تقديم المساعدة بسبب العوائق البيروقراطية مثل تأخير التأشيرات والقيود المفروضة على الحركة والعمليات بسبب النزاع. في فبراير، علّقت منظمة أطباء بلا حدود أنشطتها في مخيم زمزم بشمال دارفور، مشيرةً إلى “مستوى غير مقبول من المخاطر” بعد إطلاق النار على سيارتي إسعاف.
منذ عام 2023، قدمت اليونيسف 13.7 مليون جرعة لقاح فموي ضد الكوليرا، ولكن مع انخفاض معدلات التطعيم الوطنية من 85% إلى 50% بسبب النزاع، دعت الوكالة إلى توفير 750 ألف دولار أمريكي كمساعدات لتوفير استجابة طارئة شاملة للكوليرا. ودعت منظمات مثل أطباء بلا حدود الأطراف المتحاربة إلى منح وصول غير مقيد لإيصال المساعدات.
هل يمكن للمجتمع الدولي أن يتجاوز دور المتفرج في الأزمة السودانية؟
كانت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أكبر مانح إنساني للسودان، حيث قدمت ما يقرب من 44% من إجمالي التمويل الإنساني، والذي بلغ 126.5 مليون دولار أمريكي حتى 10 مارس. ونتيجةً لأوامر وقف العمل، تعطلت 335 منشأة صحية في السودان. كما توقفت فجأةً برامج المياه والصرف الصحي والنظافة، وهي برامج بالغة الأهمية لمكافحة انتشار الكوليرا.
حشدت المنظمات الدولية، بما فيها منظمة الصحة العالمية ومنظمة أطباء بلا حدود، جهودها لتقديم مساعدات طارئة، إلا أن الوصول إلى المحتاجين لا يزال يمثل تحدياً كبيراً. وفي ضوء فشل مفاوضات وقف إطلاق النار في 15 أبريل، يتعين على القادة الدوليين مواصلة الضغط من أجل التوصل إلى حل.
ما هي الرؤية المستقبلية لنظام صحي مستدام في السودان؟
يتطلب نظام الرعاية الصحية في السودان استثماراً طويل الأجل لإعادة بنائه. ومن شأن الإصلاحات الجذرية أن تمنع تفاقم الأزمة وتبني نظاماً قادراً على مقاومة تفشي الأمراض في المستقبل. يؤكد انعدام الاستقرار خلال الأزمة على الحاجة إلى استراتيجية طويلة الأمد لإعادة بناء نظام الرعاية الصحية في السودان، وبناء بنية تحتية صحية عامة مكتفية ذاتياً ومقاومة للنزاعات.
إن الأنظمة الصحية المستدامة والمرنة ليست ترفاً في أوقات السلم، بل هي أساسٌ ضروريٌّ لبقاء أي بلد وسلامته. ولإنقاذ الأرواح، ينبغي على السودان أن يتحرك بسرعة وحزم لتعزيز نظامه الصحي لمواجهة تفشي الكوليرا الحالي وما بعده، مع ضرورة دعم المجتمع الدولي لهذه الجهود بشكل مستدام ومنسق.