قنبلة السودان الموقوتة

إلى متى يظل العالم عاجزًا أمام أكبر كارثة

 

 

عصام عباس

 يونيو 2025

تداولت منصات التواصل الاجتماعي اليوم “السبت 14 يونيو” مذكرة قوية مهرها بالتوقيع عدد من رموز المجتمع السوداني، عبّروا فيها عن رفضهم لمبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى السودان، رمطان لعمامرة، مستندين إلى جملة من الأسباب الموضوعية والمقنعة. تأتي هذه المذكرة كدعوة صريحة للأمم المتحدة لإعادة تقييم نهجها في التعامل مع الأزمة السودانية، ليس فقط عبر استبدال المبعوث الحالي، بل من خلال تبني رؤية جديدة وأكثر جدية ومسؤولية نحو حل شامل وعادل. فالأزمة في السودان لم تعد شأنًا داخليًا معزولًا، بل تسير بخطى متسارعة نحو التحول إلى تهديد حقيقي للأمن والسلم الدوليين.

أزمة بلا اهتمام

برغم أن حرب السودان هي الأكثر فتكًا من حربي أوكرانيا وغزة إلا أنها لم تحظ إلا بجزء بسيط من الاهتمام العالمي. اشتعلت الحرب في ثالث أكبر دولة في أفريقيا، وفي الإقليم العربي، في منتصف أبريل من العام 2023، وقد سويت عاصمتها بالأرض، وقتل عشرات الألوف من المدنيين (حتى الآن لم تفصح الأطراف العسكرية عن عدد قتلاها من العسكريين وهي بلا أدنى شك أعداد كبيرة جدًا)، وانتشرت المقابر غير الرسمية وسط الأحياء. تدهور الوضع الإنساني وأجبر أكثر من مليون  شخص على الفرار من ديارهم، مؤشرات قياس الجوع أكدت الوصول إلى مستوى الكارثة في بعض المناطق، بينما أخريات في ذات الطريق. أظهرت تحليلات بيانات الأقمار الصناعية والصور الملتقطة بواسطة المعهد الهولندي للعلاقات الدولية، ومن خلال نمذجة الأزمة في العام 2024، بلدًا مغطى بالحرائق وبالفيضانات الناجمة عن السيول والأمطار، وها هو موسم الأمطار على الأبواب والتوقعات تشير إلى وضع أسوأ من العام السابق، مما يعني أن المعاناة تزداد سوءًا.

احترق النخيل في شمال السودان، وتلفت المزارع والمحاصيل في وسطه وغربه وجنوبه، مما اضطر الناس إلى أكل العشب وأوراق الأشجار، وإذا استمرت ندرة الغذاء بهذه الوتيرة، فقد يموت 6 إلى 10 ملايين من الجوع بحلول عام 2027.

البعد الجيوسياسي وما خلف الحدود الوطنية

وكما هي أسوأ أزمة إنسانية في العالم، فهي أيضًا قنبلة جيوسياسية موقوتة. إن حجم السودان وموقعه يجعلانه محفزًا للفوضى ونقلها إلى خارج حدوده. التقارير تتحدث عن رعاية دول لها مصالح للمتحاربين، بينما نأى الغرب وأصبح غير منخرط بصورة مباشرة في حل الصراع، ووقفت الأمم المتحدة مشلولة الإرادة. هذا الوضع المتدهور على مدار الساعة سيؤدي إلى زعزعة استقرار الجيران ورفع معدلات تدفق اللاجئين إلى أوروبا. أما على مستوى التجارة الدولية فإن للسودان أكثر من 800 كيلومتر من السواحل على البحر الأحمر أهم شريان للتجارة العالمية.

هل يعي الاتحاد الأوروبي أن 60% من ساكني مخيم كاليه في فرنسا هم سودانيون، أجبرتهم المآسي في وطنهم على ركوب قوارب الموت لاجتياز البحر الأبيض المتوسط هربًا من الجحيم، وهل يعلمون أن هذا الجحيم قد اشتد وأصبح في أوج عنفوانه الآن مما يؤشر إلى احتمال فتح مزيد من المعسكرات لاستقبال الجيوش الجرارة من اللاجئين الجدد؟ هل تدرك الأمم المتحدة أن للسودان حدود يسهل اختراقها مع ثمان دول هشة تصل إلى حوالي 6700 كلم، وتمثل هذه الدول حوالى 21% من مساحة اليابسة في أفريقيا، وموطنًا لـ280 مليون شخص في تشاد ومصر وإثيوبيا وليبيا وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإريتريا؟

خطر الإرهاب والتطرف العنيف

والأخطر من كل ذلك، يمكن أن يصبح السودان ملاذًا للإرهابيين. فهنالك تاريخ طويل مع الجماعات الأصولية المتطرفة التي اختارت السودان إما مسرحًا لعملياتها أو ملعبًا لتحضير الإرهابيين وإعادة تصديرهم للعالم. فقد صرح وزير الداخلية السوداني خلال يوليو 2024 بهروب مئات الإرهابيين الموقوفين بالسجون السودانية، ومعظمهم يتوزع بين تنظيم الدولة، والقاعدة أو الجماعات الإرهابية التي فرت من دول الجوار بعد تضييق الخناق عليها في تلك البلدان. هل قامت مؤسسات الأمم المتحدة المعنية بمكافحة الإرهاب والتطرف العنيف بدراسة تأثير حرب السودان على السلام العالمي، وهل يدركون ماذا يعني حزام الإرهاب في غرب أفريقيا وخطر جماعات مثل بوكو حرام وتنظيم بلاد المغرب العربي، بالإضافة إلى تغذية العنف في الصومال من خلال تهريب مقاتلين عبر شرق السودان لتنظيم الشباب الصومالي المتطرف.

تجاهل أممي رغم المخاطر

على الرغم من المخاطر الكبيرة على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، استجاب العالم لحرب السودان بالإهمال والتجاهل واللامبالاة، مما يدل على كيف أصبحت الفوضى طبيعية. الأمم المتحدة وعبر مبعوثها ضعيف الشخصية تعاملت برتابة غير فعّالة وعدم حيادية مكشوفة في أزمة أصلًا نشأت نتيجة صراع متعدد الأطراف ومن الغباء أن الانحياز إلى طرف دون الآخرين. اكتفت الأمم المتحدة بالاستماع إلى تقارير المآسي من كبار موظفيها الذين يمثل لهم استمرار الأزمة مزيدًا من الدخل الشخصي والمخصصات. لم تتجاوز الأمم المتحدة محطة الاستماع الخجول وبيانات التنديد ذات المفردات المنتقاة بعناية حتى لا تثير غضب الطرف الذي يواليه العمامرة، وكأنه يقول لهم هأَنذا انصاع لتهديدكم لي يوم تنصيبي مبعوثًا للسودان.

ماذا يمكن فعله؟ ليس هناك عذر للتجاهل

من الخطأ الفادح أن يتجاهل العالم السودان، وأن نتخيل أنه لا يمكن فعل أي شيء. يمكن للشارع الحر في البلدان الحرة الضغط على حكوماتها الديمقراطية التي تهتم بحياة البشر لبذل المزيد من الجهد. لدى الكثير من الدول حوافز لوقف النزاع واحتواء القتال. أوروبا حريصة على الحد من تدفقات المهاجرين ويحتاج الإقليم إلى بحر أحمر مستقر.

الأولوية الأولى هي الضغط على الجهات الفاعلة الخارجية التي تؤجج الصراع. فكلما كان للوردات الحرب في السودان أسلحة أقل وأموال أقل  كلما كان هناك قتل أقل، ومجاعة أقل. يجب على الأمم المتحدة عبر مجلس الأمن الدولي وأمريكا وأوروبا والقوى المؤثرة الأخرى فرض عقوبات على أي جهة تساعد في إشعال حرب السودان. من الممكن إنقاذ الملايين من الأرواح، والحد من فرص حدوث هزات جيوسياسية كارثية.

كما أنه من الضروري اتباع نهج أممي بناء وفعال لأجل خفض المعاناة الإنسانية. إن الحصول على المزيد من المساعدات يجب ألا يرتهن لقضايا سياسية. الحد من عدد الوفيات الناجمة عن الجوع والمرض يجب أن يكون على رأس الأولويات، وأن تنطلق الشاحنات المحملة بالطعام عبر كل الحدود بأمر مجلس الأمن الدولي من خلال آلية إقليمية تقف على مسافة واحدة من جميع أطراف الأزمة، وتحرص على تدفق التمويل  إلى المنظمات غير الحكومية السودانية التي تدير العيادات المجانية  وغرف الطوارئ، وإرسال الأموال النقدية إلى المحتاجين مباشرة، عن طريق الأموال عبر الهاتف المحمول أو أي وسيلة مشروعة، حتى يتمكنوا من شراء ما يحتاجون من أسواقهم المحلية.

وأخيرًا إن نجاح أي مساعٍ أممية لحل الأزمة السودانية يظل مرهونًا بمدى حيادية مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة وقدرته على الوقوف على مسافة واحدة من جميع أطراف النزاع. فغياب التوازن في التعاطي مع القوى المتصارعة لا يُفقد الوساطة الأممية مصداقيتها فحسب، بل ينسف أساس الثقة الذي يُبنى عليه أي حل سياسي مستدام. إن الشعب السوداني، الذي أنهكته الحرب وفقد ثقته في المبادرات الخارجية، بحاجة إلى مبعوث يُنصت لهم جميعًا، دون تحيّز أو اصطفاف، ويعكس تطلعاتهم للسلام والعدالة، لا أن يتحوّل إلى طرف ضمن الصراع. إن حيادية المبعوث ليست ترفًا دبلوماسيًا، بل ضرورة استراتيجية لإعادة بناء الثقة، وضمان أن تكون الأمم المتحدة جزءًا من الحل لا جزءًا من المشكلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى