مسارات الخروج .. من في الداخل مفقود

تشهد محاور القتال بمدينة أم درمان معارك ضارية منذ مارس

الخرطوم – عمار حسن

لم تجد عائلة المواطن السوداني، حسان عبد المجيد، وسيلة نقل تقلهم سوى عربة تجرها الدواب عبر طرق وعرة للفرار من مناطق سيطرة قوات “الدعم السريع” غربي مدينة أم درمان إلى مناطق سيطرة الجيش السوداني شمالي المدينة بعد أن ساءت الأوضاع هناك جراء المعارك المحتدمة بين الطرفين منذ أكثر من عام ونصف العام.

وتشهد محاور القتال بمدينة أم درمان معارك ضارية منذ مارس/ آذار الماضي، إذ تحاول قوات الجيش السوداني التقدم غربًا بعد أن سيطرت على وسط مدينة أم درمان وتمكنت من ربط قواتها بمعسكر كرري في الشمال مع سلاح المهندسين جنوبًا الذي كانت تحاصره قوات “الدعم السريع” منذ بدء القتال في منتصف أبريل/ نيسان من العام الماضي.

وحولت المعارك التي تصاعدت بشكل مكثف خلال الأشهر القليلة الماضية، مدن وأحياء العاصمة الخرطوم إلى جُزر معزولة يصعب التحرك فيها بسبب نقاط سيطرة الطرفين ونصب قناصة أعلى البنايات.

وتعاني معظم العائلات العالقة في مناطق الصراع غرب وجنوب مدينة أم درمان وأجزاء واسعة من العاصمة الخرطوم لا سيما الواقعة تحت سيطرة قوات “الدعم السريع” بسبب منع عناصر الجيش السوداني التجار والمواطنين إدخال السلع والمواد الغذائية إلى تلك المناطق، ما أدى إلى ارتفاع أسعارها بشكل جنوني، فضلا عن انقطاع الكهرباء والمياه لعدة أشهر، وهو ما يدفع السكان للمغادرة إلى الولايات الآمنة نسبيًا، وفق ما يقول عبد المجيد لـ”أفق جديد”.

وأضاف، “حتى وقت قريب كنا نتنقل عبر المركبات العامة بين سوق ليبيا غربًا إلى صابرين شمالًا وهي السوق الوحيدة التي تعمل الآن في مدينة أم درمان ونجلب منها السلع الغذائية والخضروات لكن الاشتباكات المتصاعدة دفعت أصحاب المركبات إلى التوقف عن العمل وأصبحنا شبه محاصرين منذ عدة أشهر”.

ومع ندرة السلع الغذائية وغلاء الأسعار، قرر عبد المجيد الذي يسكن منطقة دار السلام أم بدة غربي أم درمان، مغادرة الديار إلى إحدى الولايات الآمنة شمال البلاد، لكنه لم يجد وسيلة تقله سوى عربة تجرها الدواب في رحلة استغرقت يومين كاملين من منطقته إلى ضاحية كرري شمال أم درمان، فالوقود هناك منعدم تمامًا وفي حال توفره يصل سعر الجالون إلى مائة ألف جنيها (حوالي 80 دولارًا) والناس يستخدمون الدواب في التنقل.

تحرك عبد المجيد فجرًا رفقة عائلته المكونة من 8 أفراد إلى سوق ليبيا وهناك يحصلون على تصديق من مكتب الاستخبارات التابع لقوات “الدعم السريع” بعد إجراءات التحري والتفتيش ومعرفة أسباب المغادرة إلى مناطق الجيش السوداني. يقول: “بعد تفتيش دقيق وتحري استغرق حوالي ساعتين تحركنا عبر ارتكازات طويلة تعرضنا فيها للإهانة والنهب من أفراد يتبعون لقوات الدعم السريع رغم أن ضابط بمكتب الاستخبارات تعهد بحمايتنا”.

 مع مغيب الشمس تجاوزت العائلة جميع نقاط التفتيش التابعة لقوات “الدعم السريع” ووصلت إلى منطقة سوق “الحر” القريبة من سجن الهدى التي تبدأ فيها أول نقاط التفتيش التابعة للجيش، وهنا تبدأ فصول معاناة جديدة، إذ يقوم أفراد الاستخبارات بفرز الرجال والنساء في غرف منفصلة وتفتيشهم بصورة شخصية إلى جانب تفتيش الأمتعة والهواتف الشخصية ثم نقلهم إلى مكاتب الاستخبارات للتحري وعادة ما يتم التحفظ على الشباب بغرض المزيد من التحري وترك النساء والأطفال والرجال الكبار.

يقول عبد المجيد “بتنا تلك الليلة على الأرض إلى جانب أمتعتنا بعد أن فرغنا من إجراءات التحري والتفتيش، كان الضابط مصر أننا متعاونون مع المليشيا المتمردة وإلا كيف نبقى كل هذه الفترة في تلك المنطقة لكنه لم يجد ما يثبت حديثه في هواتفنا بعد تفتيش تطبيقات الواتساب والماسنجر ومجلد الصور، ومع شروق الشمس تحركنا عبر مركبة عامة إلى سوق صابرين عبر نقاط تفتيش تابعة للجيش، ومن هنا تشعر أن الحياة مختلفة، فالمحال التجارية والأسواق الصغيرة مفتوحة والشبكات تعمل بشكل طبيعي عكس المنطقة التي هربنا منها التي تنقطع فيها شبكات الاتصالات منذ بداية الصراع حيث استعاض عنها السكان بشبكات الإنترنت الفضائي”.

ولم تخفِ رنا وهي شقيقة عبد المجيد في حديثها إلى “أفق جديد” لحظات الرعب التي عاشتها طوال الرحلة التي استمرت يومين بين نقاط تفتيش قوات الجيش والدعم السريع، وأضافت: “طوال الطريق كنا نشاهد تحليق المقاتلات الحربية ونسمع أصوات انفجارات قوية مع تصاعد أعمدة الدخان من الأحياء خصوصًا في مناطق سيطرة الدعم السريع”.

مشيرة إلى أن الضباط والجنود في نقاط التفتيش التابعة للطرفين كانوا يتعاملون معهم بطريقة مهينة، ويتهمونهم بالعمل لصالح الطرف الآخر، وأردفت “اسمعونا عبارات على شاكلة انتو شغالين مع (أبلداي) في إشارة إلى عناصر الجيش، وترفعوا إحداثيات في إشارة إلى قوات الجيش، ونهبوا منّا مبالغ مالية. أما في الجانب الآخر قال لنا ضابط بالاستخبارات العسكرية انتو شكلكم خلايا نائمة وماشين كرري تعملو زعزعة وترفعوا معلومات للجنجويد”.

ولفتت رنا إلى أن طرفي الصراع الجيش وقوات الدعم السريع دائمًا ما يرمون باللوم والتهم المجانية نحو المواطن المغلوب على أمره بحسب وصفها، في حين أن كل طرف يعرف جيدًا مكان الآخر ولا يفصلهما سوى كيلومترات عن بعضهما البعض في محاور القتال لكنهما يصران على تحميل المواطن المغلوب على أمره وزر فشلهما.

بعد رحلة شاقة وصلت عائلة عبد المجيد إلى شمال أم درمان، ومكثت هناك زهاء الشهر، ثم غادرت إلى إحدى الولايات الآمنة نسبيًا شمال البلاد ليستقر بها المقام هناك.

قوارب نيلية

أما منتصر الزين، هو الآخر لم يكن أفضل حالًا من عبد المجيد، فقد اضطر إلى نقل عائلته من منطقة الكدرو بمدينة الخرطوم بحري إلى شمال أم درمان عبر قوارب نيلية في رحلة تنطوي أيضًا على مخاطر عبر نهر النيل.

يقول الزين لـ”أفق جديد”، “هاجمت قوات الدعم السريع قبل شهر معسكري الكدرو وحطاب وداهمت الأحياء السكنية وقتلت عددًا من الشباب، وأجبرت الكثير من الأسر ونحن من بينها على الخروج من منازلهم، مشينا مسافات بعيدة على الأرجل حتى وصلنا قرى الريف الشمالي بمدينة بحري، وبعد يومين توكلنا إلى محلية كرري على الضفة الأخرى من نهر النيل عبر قوارب تقليدية في رحلة إلى المجهول”.

الآن يقيم الزين، مع أفراد عائلته في إحدى المدارس التي لجأ إليها النازحين في قرى الريف الشمالي بمحلية كرري شمال أم درمان، لكنه يقول إنهم لا يتلقون الرعاية الكافية ويحصلون على وجبة واحدة من إحدى التكايا التي يشرف عليها متطوعون بجوار المدرسة.

وأدت المعارك بين الجيش وقوات الدعم السريع إلى غلق معظم الجسور الرابطة بين مدن العاصمة الثلاث الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان بسبب سيطرة كل طرف على جانب من الجسر أو تعرضه للتدمير كما هو حال جسر شمبات الذي يربط وسط مدينة أم درمان بالخرطوم بحري، ويسيطر الجيش على جسري الإنقاذ والحديد اللذين يربطان أم درمان بوسط الخرطوم من الغرب بينما تدور معارك ضارية منذ أيام من الشرق كما يسيطر على جسر الحلفايا بالكامل من الجهتين بعد أن أحكم قبضته على منطقة الحلفايا شرق الجسر في الأيام القليلة الماضية.

وتسيطر قوات الدعم السريع على جسر خزان جبل أولياء الذي يربط جنوب أم درمان بجنوب الخرطوم وعلى جسري “سوبا” و”المنشية” اللذين يربطان الخرطوم بشرق النيل، ويتقاسم الطرفان السيطرة على جسور كوبر والمك نمر والقوات المسلحة الرابطة بين مدين بحري بالخرطوم، وتسيطر الدعم السريع على جسر توتي المؤدي إلى جزيرة توتي في الخرطوم.

وتقول الأمم المتحدة، إن السودان الذي كان، حتى قبل الحرب، من أفقر بلدان العالم، يشهد “واحدة من أسوأ أزمات النزوح في العالم، وهو مرشح لأن يشهد قريبًا أسوأ أزمة جوع في العالم”.

وتتصاعد دعوات أممية ودولية لإنهاء الحرب في السودان، بما يجنب البلاد كارثة إنسانية بدأت تدفع الملايين إلى المجاعة والموت جراء نقص الغذاء بسبب القتال.

ومنذ منتصف أبريل/نيسان 2023، يخوض الجيش السوداني و”الدعم السريع” حربًا خلّفت نحو 20 ألف قتيل وأكثر من 14 مليون نازح ولاجئ، وفقا للأمم المتحدة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى